فصل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


باب المستثنى

أنشد فيه، وهو الشاهد التاسع عشر بعد المائتين

وبلدة ليس بها طوريّ *** ولا خلا الجن بها إنسي

على أن تقدم المستثنى على المنسوب والمنسوب إليه شاذ‏.‏ والأصل‏:‏ ولا بها إنسي خلا الجن‏.‏

قال ابن الأنباري في الإنصاف‏:‏ ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز تقديم حرف الاستثناء في أول الكلام نحو إلا طعامك ما أكل زيد، نص عليه الكسائي، وإليه ذهب الزّجّاج في بعض المواضع؛ واستدلوا بهذا البيت ونحوه‏.‏ ومنعه البصريون، وأجابوا عن البيت بأن تقديره‏:‏ وبلدة ليس بها طوري ولا إنسي ما خلا الجن‏.‏ فحذف إنسياً وأضمر المستثنى منه، وما أظهره تفسير لما أضمره‏.‏ وقيل‏:‏ تقديره‏:‏ ولا بها إنسي خلا الجن‏.‏ فيها مقدرة بعد لا، وتقديم المستثنى فيه للضرورة، فلا يكون فيه حجة‏.‏

وهذان البيتان من أرجوزة للعجاج‏.‏ وقوله‏:‏ وبلدة الواو فيه واو ربّ؛ والبلدة‏:‏ الأرض، يقال‏:‏ هذه بلدتنا، أي‏:‏ أرضنا‏.‏ وروى أبو عبيد البكري في شرح نوادر القالي والصاغاني في العباب‏:‏

وخفقة ليس بها طوري

بفتح الخاء المعجمة والفاء والقاف؛ وقال‏:‏ الخفقة‏:‏ المفازة الملساء ذات آل‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ هذا صحة إنشاده، لأن قبله‏:‏

وبلدة نياطها نطيّ

أي‏:‏ بعيد‏.‏ وبعده‏:‏

للريح في أقرابها هويّ

والأقراب‏:‏ الجوانب‏.‏ وجملة‏:‏ ليس بها طوري صفة بلدة‏.‏ وطوري بمعنى أحد، لا يكون إلا مع النفي كما هنا؛ وهو في الأصل منسوب إلى طور الدار، قال شارح النوابغ الزمخشرية‏:‏ طور الدار بالضم هو ما يمتد معها من فنائها وحدودها، تقول‏:‏ أنا لا أطور بفلان ولا أطور طوره، أي‏:‏ لا أدور حوله ولا أدنو منه انتهى‏.‏

ولا وجه لقول أبي علي القالي في أماليه‏:‏ إن طورياً منسوب إلى الطورة، وهي في بعض اللغات الطّيرة - على وزن العنبة - وهو ما يتشاءم به من الفأل الرديء‏.‏ وقد رواه أبو زيد في نوادره بهذا اللفظ‏.‏ وكذلك صاحب الصحاح والعباب وغيرهم‏.‏ ورواه أبو علي القالي في أماليه طوئي على وزن طوعي قال‏:‏ أنشدني أبو بكر بن الأنباري‏!‏ وأبو بكر بن دريد، للعجّاج‏:‏

وبلدة ليس بها طوئيّ

وهو بمعنى طوري‏.‏ وزاد فيها لغتين أيضاً قال‏:‏ يقال‏:‏ ما بها طؤويّ على مثال طعويّ، وما بها طاويّ غير مهموز‏.‏ وأورد فيها كلمات كثيرة في هذا المعنى تلازم النفي، كقولهم‏:‏ ما في الدار أحد، وما بها عريب، وما بها ديّار‏.‏ وكأنه، والله أعلم، استقصى فيها جميع هذه الألفاظ‏.‏

وقوله‏:‏ ولا الخ، الواو عطفت جملة بها إنسي على جملة بها طوري المنفية بليس؛ ولا لتأكيد النفي، إلا أنه فصل بين العاطف والمعطوف بجملة خلا الجن، لضرورة الشعر‏.‏ قال ابن السرّاج في الأصول‏:‏ وحكى عن الأحمر أنه كان يجيز‏:‏ ما قام صغير ولا خلا أخاك كبير‏.‏ وإنما قاسه على قوله‏:‏

وبلدة ليس بها طوري *** ولا خلا الجن ولا إنسي

وليس كما ظن، أداة استثناء، ومثلها عدا يكونان فعلين وينصب ما بعدهما على المفعول به، لأن معناهما عند سيبويه جاوز؛ وفاعلهما ضمير مصدر الفعل المتقدم على قول ومنه - في خلا - ما أنشده ابن خروف وغيره‏:‏ ولا خلا الجن بالنصب‏.‏ ويكونان حرفين وينجرّ ما بعدهما على أنهما حرفا جر، ومنه - في خلا - قول الأعشى‏:‏

خلا الله ما أرجو سواك وإنم *** أعدّ عيالي شعبة من عيالكما

وهذا كله ما لم تتصل بهما ما المصدرية‏.‏ فإن اتصلت بهما فإن المختار النصب، والجر قليل، وتكون ما مع ما بعدها في تأويل مصدر منصوب نصب غير وسوى، عند ابن خروف، ومصدر في موضع الحال عند السيرافي‏.‏

وإنسي‏:‏ واحد الإنس، بالكسر، وهو البشر، يفرق بينه وبين واحد بياء النسبة كروم وروميّ‏.‏ فقوله‏:‏ خلا الجن استثناء منقطع، لأنه من غير جنس المستثنى منه‏.‏

وترجمة العجّاج تقدمت في الشاهد الحادي والعشرين‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد العشرون بعد المائتين وهو من شواهد س‏:‏

فإن تمس في غار برهوة ثاوي *** أنيسك أصداء القبور تصيح

على أنه جعل الأصداء أنيساً، مجازاً واتساعاً‏.‏ لأنها تقوم - في استقرارها بالمكان، وعمارته له - مقام الأناسي‏.‏

وقوى سيبويه بهذا مذهب بني تميم في إبدال ما لا يعقل ممن يعقل، إذ قالوا‏:‏ ما في الدار أحد إلا حمار، فجعلوه بمنزلة ما في الدار أحد إلا فلان‏.‏

وهذا البيت من قصيدة لأبي ذؤيب الهذلي رصى بها ابن عمّ له قتل‏.‏ مطلعها‏:‏

لعمرك إني يوم فارقت صاحبي *** على أن أراه قافلاً لشحيح

وإن دموعي إثره لكثيرة *** لو أن الدموع والزفير يريح

فو الله لا أنسى ابن عم كأنه *** نشيبة ما دام الحمام ينوح

إلى أن قال بعد أبيات ثلاثة‏:‏

فإن تمس في رمس برهوة ثاوي *** أنيسك أصداء القبور تصيح

على الكره مني ما أكفكف عبرة *** ولكن أخلّي سربها فتسيح

فما لك جيران وما لك ناصر *** ولا لطف يبكي عليك نصيح

قوله‏:‏ فإن تمس يقال أمسى‏:‏ إذا دخل في المساء، وهو خلاف أصبح‏:‏ إذا دخل في الصباح‏.‏ قال ابن القوطية‏:‏ المساء ما بين الظهر إلى المغرب‏.‏ والرمس‏:‏ القبر؛ قال في المصباح‏:‏ رمست الميت رمساً، من باب قتل‏:‏ دفنته‏.‏ والرمس‏:‏ التراب، تسمية بالمصدر ثم سمي القبر به، والجمع رموس‏.‏ وأرمسته بالألف لغة‏.‏ ورهوة‏:‏ مكان، قال ياقوت في معجم البلدان‏:‏ قال أبو عبيد‏:‏ الرهوة‏:‏ الجوبه تكون في محلة القوم يسيل إليها ماء المطر‏.‏

وقال أبو سعيد‏:‏ الرهو‏:‏ ما اطمأن من الأرض وارتفع ما حوله؛ قال‏:‏ ولا رهوة شبه تلّ يكون في متون الأرض على رؤوس الجبال ومساقط الطيور والصقور والعقبان‏.‏ ورهوة طريق بالطائف، وقيل هو جبل في شعر خفاف بن ندبة، وقيل عقبة في مكان يعرف‏.‏ وقال الأصمعي‏:‏ رهوة في أرض بني جشم ونصر ابني معاوية بن منصور بن عكرمة بن خصفة‏.‏

وثاويا خبر قوله‏:‏ تمس وهو متعلق برهوة، يقال ثوى بالمكان وفيه‏:‏ إذا أقام‏.‏ وأنيسك مبتدأ، وأصداء خبره، والجملة حال من ضمير صاويا‏.‏ وجملة تصيح صفة لأصداء؛ ولا يضر إضافته إلى المعرف باللام، لأن اللام للجنس ومدخلها قريب من النكرة‏.‏ والأنيس‏:‏ المؤانس؛ وفعله أنست به إنساً من باب علم، وفي لغة من باب ضرب؛ والأنس بالضم اسم منه؛ واستأنست به وتأنست به‏:‏ إذا سكن القلب ولم ينفر، كذا في المصباح‏:‏ والأصداء‏:‏ جمع صدى بالقصر، وهو ذكر البوم، وهو يسكن في القبور، وقال الأعلم‏:‏ هو طائر يقال له الهامة يزعم الأعراب أنه يخرج من رأس القتيل إذا لم يدرك بثأره فيقول‏:‏ اسقوني‏!‏ اسقوني‏!‏ حتى يؤخذ بثأره‏.‏ وهذا مثل؛ وإنما يراد به تحريض وليّ المقتول على طلب دمه‏.‏ فجعله جهلة العرب حقيقة‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ على الكره مني، متعلق بقوله‏:‏ أكفكف؛ يقال‏:‏ كفكفت الدمع والرجل‏:‏ إذا كففته ومنعته‏.‏ والعبرة، بالفتح‏:‏ الدمعة؛ وفعله عبرت عينه كفرحت، والسرب، بفتح السين وسكون الراء المهملتين‏:‏ الطريق، يقال خلّ له سربه‏.‏

وقوله‏:‏ فما لك جيران الخ، هذه الجملة جواب قوله فإن تمس‏.‏ وجيران‏:‏ جمع جار‏.‏ ولطف بفتح اللام والطاء المهملة، هو الرقيق والملاطف‏.‏ وهذا الكلام منه على طريق التحزن والتحسر‏.‏

وقد تقدمت ترجمة أبي ذؤيب في الشاهد السابع والستين والله أعلم‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد الحادي والعشرون بعد المائتين وهو من شواهد سيبويه‏:‏

والحرب لا يبقى لج *** حمها التخيل والمراح

إلا الفتى الصبار في النج *** دات والفرس الوقاح

على أن الفتى وما بعده استثناء منقطع، بدل من قوله‏:‏ التخيل والمراح‏.‏ والجاحم، بتقديم الجيم على الحاء المهملة‏:‏ المكان الشديد الحرّ؛ من جحمت النار فهي جاحمة‏:‏ إذا اضطرمت؛ ومنه الجحيم‏.‏ والتخيل‏:‏ التكبر من الخيلاء‏.‏ يقول‏:‏ إن الحرب تزيل نخوة المنخو‏.‏

وذلك أن أصحاب الغناء يتكرمون عن الخيلاء؛ ويختال المتشبع، فإذا جرّب فلم يحمد افتضح وسقط والمراح، بالكسر‏:‏ النشاط‏.‏ أي‏:‏ أنها تكفّ حدة البطر النشيط، والصبار‏:‏ مبالغة صابر‏.‏ والنجدة‏:‏ الشدة والبأس‏.‏ والوقاح، بالفتح‏:‏ الفرس الذي حافره صلب شديد؛ ومنه الوقاحة‏.‏

وهذان البيتان قد تقدم شرحهما مفصّلاً في الشاهد الحادي والثمانين، في اسم ما ولا المشبهتين بليس‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد الثاني والعشرون بعد المائتين، وهو من شواهد س‏:‏

عشية لا تغني الرماح مكانه *** ولا النبل إلا المشرفي المصمم

على أن ما بعد إلا، وهو المشرفي، بدل من الرماح والنبل، والاستثناء منقطع‏.‏

وأورده صاحب الكشاف، أيضاً، شاهداً على رفع الاسم الكريم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وإنما رفع على لغة تميم‏.‏ والحجازيون ينصبونه مطلقاً‏.‏

وقد جاء هذا البيت في شعرين، قافية أحدهما مرفوعة، وقافية الآخر منصوبة‏.‏ والأول هو الشائع المستشهد به، وقد ورد في كتاب سيبويه مغفلاً، ولم ينسبه أكثر شراح شواهده‏.‏

والمنصوب جاء في قصيدة للحصين بن الحمام المري‏.‏ أما الأول فهو لضرار بن الأزور الصحابي من قصيدة قالها في يوم الردة‏:‏ قال أبو محمد الأعرابي في فرحة الأديب‏:‏ أكتبنا أبو الندى‏:‏ قال ضرار بن الأزور وهو فارس المحبّر في الردة، لبني خزيمة - وكان خالد بن الوليد بعثه في خيل على البعوضة‏:‏ أرض لبني تميم، فقتل عليها مالك بن نويرة فارس بني يربوع، وبنو تميم تدعي أنه آمنه‏.‏ فقاتل يومئذ ضرار بن الأزور قتالاً شديداً - فقال في ذلك، وبلغه ارتداد قومه من بني أسد‏:‏

بني أسد قد ساءني ما صنعتم *** وليس لقوم حاربوا الله محرم

وأعلم حقاً أنكم قد غويتم *** بني أسد فاستأخرو وتقدموا

نهيتكم أن تنهبوا صدقاتكم *** وقلت لكم يا آل ثعلبة اعلموا

عصيتم ذوي أحلامكم وأطعتم *** ضجيماً وأمر ابن اللقيطة أشأم

وقد بعثوا وفداً إلى أهل دومة *** فقبح من وفد ومن يتيمم

ولو سألت عنا جنوب لخبّرت *** عشية سالت عقرباء بها الدم

عشية لا تغني الرماح مكانه *** ولا النبل إلا المشرفي المصمم

فإن تبتغي الكفار غير منيبة *** جنوب فإني تابع الدين فاعلموا

أقاتل إذ كان القتال غنيمة *** ولله بالعبد المجاهد أعلم

ضجيم هو طليحة بن خويلد، وكانت أمه حميرية أخيذة‏.‏ وابن اللقيطة‏:‏ عيينة بن حصن‏.‏ وقوله‏:‏ يا آل ثعلبة، أراد ثعلبة الحلاف بن دودان بن أسد‏.‏ وقال لنا أبو الندى‏:‏ عقرباء بالباء‏:‏ أرض باليمامة‏.‏ قال‏:‏ وعقر ما بالميم باليمن، وأتنشد لرجل من جعفي في قتل مالم بنمازن أحد بني ربيعة بن الحارث‏:‏

جدعتم بأفعى بالذهاب أنوفن *** فملنا بأنفيكم فأصبح أصلما

فمن كان محزوناً بمقتل مالك *** فإنا تركناه صريعاً بعقرما

وقوله‏:‏ عشية سالت هو بتقدير مضاف، أي‏:‏ لخبّرت خبر عشية سالت‏.‏ وعشية الثانية بدل منها‏.‏ وجنول فيما بعد هذا منادى، وهي امرأة‏.‏

والعشية واحدة العشي، قال في المصباح‏:‏ العشي قيل ما بين الزوال إلى الغروب، ومنه يقال للظهر والعصر صلاتا العشيّ؛ وقيل هو آخر النهار، وقيل العشي من الزوال إلى الصباح، وقيل العشي والعشاء من صلاة المغرب إلى العتمة‏.‏ وجملة لا تغني الرماح الخ، في محل جر بإضافة عشية إليها‏.‏ ومكانها ظرف لقوله لا تغني، وهو العامل فيه‏.‏ قال العيني‏:‏ الضمير في مكانها للحرب، يدلّ عليه لفظ الجهاد، لأنه لا يكون إلا بمكان الحروب‏.‏ وأغنيت عنك بالألف، مغني فلان‏:‏ إذا أجزأت عنه وقمت مقامه‏.‏

وحكى الأزهري‏:‏ ما أغنى فلان شيئاً، بالغين والعين، أي‏:‏ لم ينفع في مهم ولم يكف مؤنة‏.‏ وقوله‏:‏ ولا النبل بالرفع عطفاً على الرماح‏.‏ والنبل بالفتح‏:‏ السهام العربية، وهي مؤنثة، ولا واحد لها من لفظها، بل الواحد سهم‏.‏ وقوله‏:‏ إلا المشرفي بالرفع على لغة تميم بدل من الرماح والنبل، وإن لم يكن من جنسهما، مجازاً على ما تقدم قبله‏.‏ ولا وجه لما نقله ابن الأنباري عن بعضهم‏:‏ من أن نصب المشرفي على المعنى، قال‏:‏ كأنه أرادبقوله‏:‏ لا تغني الرماح، أي‏:‏ لا تستعملها ولا تستعمل إلا المشرفي‏.‏ وهذا تعسف ظاهر‏.‏ والمشرفي بفتح الميم، هو السيف النمسوب إلى مشارف، قال البكري في معجم ما استعجم‏:‏ قال الحربي‏:‏ والمشارف قرى من قرى العرب تدنو من الريف، أحدها مشرف‏.‏ وقال في موضع آخر‏:‏ وهي مثل خيبر ودومة الجندل وذي المروة والرحبة‏.‏

وقال البكري، في مؤتة أيضاً‏:‏ وكان لقاؤهم - يعني المسلمين - الروم في قرية يقال لها مشارف من تخوم البلقاء، ثم انحاز المسلمون إلى مؤتة وهو موضع من أرض الشام من عمل البلقاء‏.‏ فالسيف المشرفي، إن كان منسوباً إلى الأول فالنسبة على القياس، لأن الجمع يردّ إلى الواحد فينسب إليه، وإن كان منسوباً إلى الثاني فالنسبة على خلاف القياس‏.‏

وبهذا التحقيق يعرف ما في قول الصاغاني وغيره‏:‏ والسيوف المشرفية منسوبة إلى مشارف الشام، قال أبو عبيدة‏:‏ هي قرى من أرض العرب تدنو من الريف، يقال‏:‏ سيف مشرفي ولا يقال مشارفي، لأن الجمع لا ينسب إليه إذا كان على هذا الوزن‏.‏ انتهى‏.‏

وقال صاحب المصباح - بعد أن نقل هذا - وقيل هذا خطأ، بل هي نسبة إلى موضع من اليمن‏.‏ وقا لابن الأنباري فيشرح المفضليات، عند الكلام على هذا البيت‏:‏ والمشرفي منسوب إلى المشارف، وهي قرى للعرب تدنو من الريف، ويقال‏:‏ بل هي منسوبة إلى مشرف، رجل من ثقيف فالقول الأول هو القول الأول من كلام البكري ويدل على الجمعية دخول اللام عليها في كلامهما‏.‏ والمصمم‏:‏ اسم فاعل من صمم، قال صاحب الصحاح‏:‏ وصمم السيف‏:‏ إذا مضى في العظم وقطعه، فإذا أصاب المفصل وقطعه‏.‏ يقال‏:‏ طبّق‏.‏ قال الشاعر يصف سيفاً‏:‏

يصمّم أحياناً وحيناً يطبق

ومثله قول ابن النباري‏:‏ والمصمم الذي يبري العظم برياً، حتى كأنه وقع في المفصل من سرعة مضائه‏.‏ والمطبق الذي يقع على المفصل، ومنه قول الكميت يصف رجلاً شبهه بالسيف‏:‏

فأراك حين تهز عند ضريبة *** في النائبات مصمماً كمطبق

أي‏:‏ هو يمضي في نفس العظم ويبريه، وكأنه إنما طبق أي وقع على المفصل‏.‏ فهذا الرجل حين يهز لما ينوب من الخطوب، كهذا السيف في مضائه، أي‏:‏ يركب معالي الأمور وشدادها، ولا يثنيه شيء، كهذا السيف‏.‏ وإنما كانت الرماح والنبل لا تغني، لأن الحرب إذا كانت بالليل لا تغني إلا السيوف، لاختلاط القوم ومواجهة - بعضهم بعضاً، كذا قال العيني‏.‏ وهذا من تفسير العشية بالليل‏.‏ وليس كذلك، بل هو من شدة المحاربة حيث استقل عملهما فنازل بالسيف‏:‏ وذلك أن أول الحرب المناضلة بالسهام، فإذا تقاربوا فالتراشق بالرماح فإذا التقوا فالمجالدة بالسيوف‏.‏ فالشاعر يصف شدة المحاربة، بالتقاء الفريقين، فلم يفد حينئذ إلا التضارب بالسيوف‏.‏

وأما الثاني، وهو الشعر المنصوب، فمطلع القصيدة‏:‏

جزى الله أفناء العشيرة كله *** بدارة موضوع عقوقاً ومأثما

بني عمنا الأدنين منهم ورهطن *** فزارة إذ رامت بنا الحرب معظما

ولما رأيت الودّ ليس بنافعي *** وإن كان يوماً ذا كواكب مظلما

صبرنا، وكان الصبر منا سجية *** بأسيافنا يقطعن كفاً ومعصما

يفلقن هاماً من رجال أعزة *** علينا، وهم كانوا أعق وأظلما

فليت أبا شبل رأى كرّ خيلن *** وخيلهم بين الستار فأظلما

نطاردهم نستنقذ الجرد كالقن *** ويستنقذون السمهري المقوّما

عشية لا تغني الرماح مكانه *** ولا النبل إلى المشرفي المصمما

لدن غدوة حتى إذا الليل ما ترى *** من الخيل إلا خارجيا مسوما

وهذه القصيدة مسطورة في المفضليات، وعدتها واحد وأربعون بيتاً‏.‏

وأفناء العشيرة‏:‏ أوباشهم، يقال‏:‏ هو من أفناء الناس‏:‏ إذا لم يعلم ممن هو‏.‏ ودارة موضوع‏:‏ اسم مكان، وكذلك الستار وأظلم، موضعان‏.‏ وقوله‏:‏ نطاردهم الخ، هذا هو العامل في عشية‏.‏ وروي‏:‏

نقاتلهم نستنقذ الجرد كالقن *** ويستودعون السمهري المقوّما

وروى ابن قتيبة‏:‏

نحاربهم نستودع البيض هامهم *** ويستودعون السمهري المقوّما

والجرد‏:‏ الخيل القصيرة الشعور؛ وذلك مدح لها‏.‏ والسمهري‏:‏ القنا‏.‏ والقوّم‏:‏ المعدل المثقف‏.‏ يقول‏:‏ نحن نستنقذ الخيل الجرد منهم، وهم يستنقذون الرماح منا بأن نطعنهم بها ونتركها فيهم‏.‏

وقوله‏:‏ لدن غدوة الخ، ظرف لنطاردهم أيضاً‏.‏ والخارجي من الخيل‏:‏ الجواد في غير نسب تقدم له، كأنه نبغ بالجودة؛ وكذلك الخارجي من كل شيء‏.‏ والمسوّم‏:‏ المعلم للحرب‏.‏ يقول‏:‏ إن الناس انكشفوا في هذه الحرب فلم يبق إلا أهل هذه الخيل الأشداء، الذين سوّموا أنفسهم وخيلهم، شجاعة وجراءة؛ لأنه لا يثبت عند انهزام الناس إلا الأبطال‏.‏

وفي هذه القصيدة بيت من شواه سيبويه، وأورده المرادي في باب إعراب الفعل من شرح الألفية‏:‏

ولولا رجال من رزام بن مازن *** وآل سبيع وأسوءك علقما

لأقسمت لا تنفك مني محارب *** على آلة حدباء حتى تندّما

أورده شاهداً على نصب أسوءك بإضمار أن بعد أو‏.‏ ورزام هو رزام بن مازن ثعلبة بن سعد بن ذبيان‏.‏ ووهم العيني فزعم أنه أبو حي من تميم، قال‏:‏ وهو رزام بن مالك بن عمرو بن تميم‏.‏ وسبيع بالتصغير، هو سبيع بن عمرو بن فتية مصغر فتاة بن أمة بن بجالة بن مازن بن ثعلبة بن سعد بن ذبيان‏.‏ وكان سبيع شريفاً؛ وهو صاحب الرهن التي وضعت على يديه في حرب عبس وذبيان؛ ولما حضره الموت قال لابنه مالك بن سبيع‏:‏ إن عندي مكرمة لا تبيد أبداً إن احتفظت بهذه الأغيلمة‏.‏‏.‏ وعلقم منادى مرخّم علقمة، وهو علقمة بن عبيد بن عبد بن فتية المذكور‏.‏‏.‏ وآل سبيع بالجر عطفاً على مجرور من‏.‏ وأسوءك مؤول بمصدر معطوف على رجال‏.‏ وروي‏:‏ ولولا رجال من رزام أعزة بالرفع صفة رجال‏.‏

وقوله‏:‏ لأقسمت لا تنفك الخ، هو جواب لولا‏.‏ وقوله‏:‏ لا تنفك الخ؛ جواب القسم‏.‏ ومحارب‏:‏ قبيلة؛ وهو محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان‏.‏ والآلة‏:‏ الحالة، والحدباء، بالحاء المهملة‏:‏ الصعبة‏.‏ والمعنى‏:‏ لولا أن هؤلاء الرجال ومساءتك لحملت على أمر عظيم صعب، لا تطمئن عليه إذا ركبته‏.‏ وتندّم أصله تتندم بتاءين، فحذف إحداهما‏.‏

وأما ضرار بن الأزور فهو مالك بن أوس بن جذيمة بن ربيعة بن مالك بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة الأسدي‏.‏ الفارس، الشاعر، الصحابي‏.‏ أتى النبي صلى الله عليه وسلم، وأنشده‏:‏

خلعت القداح وعفت القي *** ن والخمر تقلية واستهالا

وكرّي المحبر في غمرة *** وجهدي على المسلمين القتالا

فيا ربّ لا أغبنن بيعتي *** فقد بعت أهلي ومالي بدالا

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ربح البيع‏.‏

قال ابغوي‏:‏ ولا أعلم لضرار غيرها ويقال‏:‏ إنه كان له ألف بعير برعاتها، فترك جميع ذلك وحضر وقعة اليرموك وفتح الشام‏.‏ وكان خالد بن الوليد بعثه في سرية فأغار على حي من أسد، فأخذوا امرأة جميلة؛ فسأل ضرار أصحابه أن يهبوها له، ففعلوا، فوطئها ثم ندم؛ فذكر ذلك لخالد فكتب إلى عمر رضي الله عنه، فكتب إليه‏:‏ أن أرضخه بالحجارة‏!‏ فجاء الكتاب وقد مات ضرار‏.‏ وقيل‏:‏ إنه ممن شرب الخمر مع أبي جندل، فكتب فيهم أبو عبيدة إلى عمر، فكتب إليه عمر‏:‏ أن ادعهم فسائلهم، فإن قالوا إنها حلال فاقتلهم، وإن زعموا أنها حرام فاجلدهم‏!‏ ففعل فقالوا‏:‏ إنها حرام؛ فجلدهم‏.‏

وضرار هو الذي قتل مالك بن نويرة بأمر خالد بن الوليد - كما تقدم شرحه مفصّلاً في الشاهد السادس والثماني واختلف في وفاة ضرار، فقال الواقدي‏:‏ استشهد باليمامة‏.‏ وقال موسى بن عقبة‏:‏ بأجنادين‏.‏ وقيل‏:‏ نزل حران فمات بها‏.‏ والله أعلم‏.‏

وأما الحصين بن الحمام المري، فهو جاهلي‏.‏ وهو بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين‏.‏ والحمام بضم الحاء المهملة وتخفيف الميم‏.‏ وهو فارس شاعر‏.‏

قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء‏:‏ هو من بني مرة، جاهلي، يعد من أوفياء العرب‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ اتفقوا على أن أشعر المقلّين ثلاثة‏:‏ المسيب بن علس، والحصين بن الحمام، والمتلمّس‏.‏

وهذه نسبته، كما في الجمهرة وشرح المفضليات‏:‏ الحصين بن الحمام بن ربيعة بن مساب بضم الميم وتخفيف السين بن حرام بن وائلة بن سهم بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد الثالث والعشرون بعد المائتين وهو من شواهد س‏:‏

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب

على انه عند سيبويه استثناء منقطع جعل كالمتصل، لصحة دخول البدل في المبدل منه‏.‏ وبينه الشارح المحقق أحسن بيان‏.‏

وقوله‏:‏ أن سيوفهم الخ، مؤول بمصدر مجرور، أي‏:‏ غير كون سيوفهم بها فلول الخ‏.‏ والفلول‏:‏ جمع فلّ، بفتح الفاء، وهو كسر في حدّ السيف؛ وسيف أفلّ بين الفلل؛ يقال‏:‏ فلّه فانفلّ أي‏:‏ كسره فانكسر؛ وفللت الجيش أي هزمتهم‏.‏ والقراع‏:‏ المضاربة، مصدر قارعه؛ يقال قرعته بالمقرعة‏:‏ إذا ضربته بها؛ وقرعت الباب‏:‏ إذا طرقته‏.‏ والكتائب‏:‏ جمع كتيبة، وهي الطائفة المجتمعة من الجيش‏.‏

وهذا البيت مشهور، قد تداوله العلماء في تصانيفهم، وقد أورده علماء البديع شاهداً لتأكيد المدح بما يشبه الذمّ؛ فإنه نفى العيب عن هؤلاء القوم على جهة الاستغراق، ثم أثبت لهم عيباً وهو تثلم سيوفهم من مضاربة الجيوش‏.‏ وهذا ليس بعيب، بل هو غاية المدح؛ فقد أكد المدح بما يشبه الذم‏.‏ وأورده صاحب الكشاف أيضاً، عند قوله تعالى‏:‏ لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم‏.‏

على أن الآية أشبه بتأكيد الذم بما يشبه المدح‏:‏ عكس البيت فإن إطلاق الحجة على قول الذين ظلموا، ذم في صورة مدح، لا أنه مدح في صورة ذم‏.‏

وأورده سيبويه في باب ما لايكون إلا على معنى ولكن‏.‏ قال النحاس‏:‏ فرق سيبويه بين هذا الباب وبين الباب الذي قبله، لأن الذي قبله يجوز فيه الرفع والنصب، والنصب أجود؛ وهذا الباب لا يجوز فيه عنده غلا النصب، لنه ليس من الأول في شيء‏.‏ وأجاز المبرد في جميع ما في هذا الباب الرفع، وكذا في‏:‏ لا عيب فيهم غير أن سيوفهم انتهى‏.‏

وعلى قول المبرد فتكون غير بدلاً من الضمير المستقر في الظرف‏.‏

وهذا البيت من قصيدة للنابغة الذبياني، مدح بها عمرو بن الحارث الأصغر بن الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر، ملوك الشام الغسانيين، وذلك لما هرب من النعمان بن المنذر اللخمي، من ملوك الحيرة‏.‏ وليس الممدوح بها النعمان بن الحارث - كما وهم شارح شواهد المغني - لتصريح الممدوح بها في القصيدة، كما سيأتي‏.‏ ومطلع القصيدة‏:‏

كليني لهمّ يا أميمة ناصب *** وليل أقاسيه بطيء الكواكب

وتقدم شرح هذا البيت وسبب هروبه، في الشاهد السابع والثلاثين بعد المائة مفصلاً‏.‏ وقال بعد ثلاثة أبيات شرحت هناك‏:‏

حلفت يميناً غير ذي مثنوية *** ولا علم إلا حسن ظن بصاحب

لئن كان للقبرين قبر بجلّق *** وقبر بصيداء التي عند حارب

وللحارث الجفنيّ سيد قومه *** ليلتمسن بالجمع أرض المحارب

البيت الأول من شواهد سيبويه، أورده بنصب ما بعد إلا على الاستثناء المنقطع، لأن حسن الظن ليس من العلم‏.‏ ورفعه جائز على البدل من موضع العلم وإقامة الظن مقام العلم اتساعاً ومجازاً‏.‏ وقوله‏:‏ غير ذي مثنوية، هو مصدر بمعنى الاستثناء في اليمين؛ أي‏:‏ حلفت غير مستثن في يميني، ثقة بفعل هذا الممدوح، وحسن ظن به‏.‏

وروى أبو عبيدة‏:‏

وما ذاك إلا حسن ظن بصاحب

وعليه فلا شاهد فيه، والإشارة لليمين‏.‏‏.‏ وجملة المصراع الثاني على الروايتين معترضة بين القسم وجوابه‏.‏ وقوله‏:‏ لئن كان للقبرين الخ، اللام الداخلة على إن موطئة للقسم، أي‏:‏ وطأت أن الجواب الذي بعد الشرط للقسم؛ فجملة قوله الآتي‏:‏ ليلتمسن بالجمع الخ، جواب القسم‏.‏ وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم، واسم كان ضمير عمرو الممدوح المتقدم في قوله‏:‏

علي لعمرو نعمة بعد نعمة *** لوالده ليست بذات عقارب

وأراد بالقبرين المقبورين‏:‏ الحارث الأعرج، ابن الحارث الأكبر، وهو الجفني الآتي ذكره‏.‏ يقول‏:‏ لئن كان عمرو ابن هذين الرجلين المقبورين في هذين المكانين، ليمضينّ أمره وليلتمسن أرض من حاربه‏.‏ وجلّق بكسر الجيم واللام المشددة، هي الشام‏.‏ وصيداء مدينة بالشام بالساحل‏.‏ وحارب‏:‏ موضع، وقيل اسم رجل‏.‏

وقوله‏:‏ للحارث الجفني الخ، بفتح الجيم، وهو جفنة بن عمرو مزيقياء بن عامر بن ماء السماء؛ وهم الملوك الذين كانوا بالشام‏.‏ وقوله‏:‏ ليلتمسن، هذا جواب القسم مؤكد بالنون الخفيفة‏.‏ وقوله‏:‏ بالجمع، أي‏:‏ بجموع العساكر والجيوش‏.‏

وقال بعدما ذكر‏:‏

لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم *** من الناس والأحلام غير عوازب

مجلتهم ذات الإله ودينهم *** قويم فما يرجون غير العواقب

والشيمة‏:‏ الطبيعة‏.‏ وقوله‏:‏ والأحلام الخ، أي‏:‏ لا تعزب عقولهم عنهم كما تعزب الماشية عن أهلها، أي‏:‏ لا تغيب‏.‏ وقوله‏:‏ مجلتهم ذات الإله، المجلة بفتح الميم والجيم‏:‏ الكتاب، لأنه يجلّ ويعظّم؛ وأراد به الإنجيل، لأنهم كانوا نصارى‏.‏ قال العسكري في كتاب التصحيف‏:‏ قرأته على ابن دريد‏:‏ مجلتهم بالجيم، وقال لي‏:‏ سمعت أبا حاتم يقول‏:‏ رواية الأصمعي بالجيم، قال‏:‏ وهو كتاب النصارى‏.‏

وكذا كل كتاب جمع حكمة وأمثالاً، فهو عند العرب مجلة، ومن هذا سمى أبو عبيدة كتابه الذي جمع فيه أمثال العرب المجلة‏.‏ وروى أيضاً‏:‏ محلتهم بالحاء المهملة أي‏:‏ منزلتهم بيت المقدس وأرض الشام ومنازل الأنبياء وهي القدس‏.‏ وروى ابن السكيت‏:‏ مخافتهم يريد يخافون أمر الله‏.‏ وذات الإله‏:‏ كتابه‏.‏ وقويم‏:‏ مستقيم‏.‏ وقوله‏:‏ فما يرجون الخ، قال الأصمعي‏:‏ أي‏:‏ ما يطلبون إلا عواقب أمورهم، فليس يرجون شيئاً من أمر الدنيا، وإنما يرجون ما بعد الموت‏.‏

وبعد البيت المستشهد به، أعني قوله‏:‏

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

تخيّرن من أزمان يوم حليمة *** إلى اليوم قد جرّبن كل التجارب

وأورده ابن هشام ف يالمغني على أن من تأتي لابتداء الغاية في الزمان أيضاً، وهو مذهب الكوفيين والأخفش والمبرد وابن درستويه، بدليل‏:‏ من أول يوم ‏.‏

وفي الحديث‏:‏ فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة‏.‏ وهذا البيت‏.‏ وقيل‏:‏ التقدير‏:‏ من مضي أزمان، ومن تأسيس أول يوم‏.‏ وردّه السهيلي بأنه لو كان هكذا لاحتيج إلى تقدير الزمان‏!‏ وتخيرن وجربن كلاهما بالبناء للمفعول؛ والنون ضمير السيوف‏.‏ والتجارب‏:‏ جمع تجربة‏.‏ وكل منصوب على المصدر‏.‏ وإلى متعلقة بقوله تخيّرن‏.‏

ويوم حليمة، قال العسكري ف يالتصحيف‏:‏ هو يوم كان بين ملوك الشام، من الغسانيين، وملوك العراق، قتل فيه المنذر - غما جد النعمان وأبوه - وقيل في هذا اليوم ما يوم حليمة بسرّ انتهى‏.‏

وفي الدرة الفاخرة لحمزة الأصبهاني، وهي الأمثال التي جاءت على وزن أفعل التفضيل، وكذلك في مستقصى الأمثال للزمخشري، واللفظ للأول‏:‏ أعز من حليمة هي بنت الحارث بن أبي شمر الغساني الأعرج ملك عرب الشام، وفيها سار المثل فقيل‏:‏ ما يوم حليمة بسر أي‏:‏ خفي‏.‏

وهذا اليوم هو اليوم الذي قتل فيه المنذر بن المنذر ملك عرب العراق، فسار بعربها إلى الحارث الأعرج الغساني - وهو ابن الحارث الأكبر، وكان في عرب الشام - وهو أشهر أيام العرب‏.‏ وإنما نسب هذا اليوم إلى حليمة لأنها حضرت المعركة محضضة لعسكر أبيها؛ فتزعم العرب أن الغبار ارتفع في يوم حليمة حتى سدّ عين الشمس وظهرت الكواكب المتباعدة من مطلع الشمس، فسار المثل بهذا اليوم قالوا‏:‏ لأرينك الكواكب ظهرا‏.‏ وأخذه طرفة فقال‏:‏

إن تنوّله فقد تمنعه *** وتريه النجم يجري بالظهر

وفي شرح ديوان النابغة‏:‏ سبب ذلك أن الملك كان في الضجاعم، فأتى رجل منهم رجلاً من غسان يقال له جذع، فسأله الخراج، فأعطاه ديناراً؛ فقال‏:‏ هات آخر، وشدد عليه، فاستأجله فلم يفعل، فلما ضيق عليه دخل جذع منزله فالتحف على سيفه ثم خرج، فضرب به الضجعمي فقتله‏.‏

فقال القاتل‏:‏ خذ من جذع ما أعطاك‏.‏ ووثبت غسان ورأسوا عليهم رجلاً، ثم أوقعوا بالضجاعم فغلبتهم غسان وأخذت الملك منهم‏.‏‏.‏ وأما حليمة فهي ابنة الغساني الذي رئس عليهم، وكانت من اجمل النساء، فأعطاها طيباً وأمرها أن تطيّب من مرّ بها من جنده؛ فجعلوا يمرون بها وتطيبهم، فمر بها شاب فلما طيبته تناولها فقبلها؛ فصاحت وشكت ذلك إلى أبيها؛ فال‏:‏ اسكتي فما في القوم أجلد منه، حين فعل هذا بك واجترأ عليك، فإنه إما أن يبلي بلاء حسناً، فأنت امرأته، وإما أن يقتل، فذاك أشد عليه مما تريدين به من العقوبة، فأبلى الفتى، ثم رجع فزوّجه ابنته حليمة انتهى‏.‏

وفي القاموس‏:‏ وحليمة بنت الحارث بن أبي شمر، وجه أبوها جيشاً إلى المنذر بن ماء السماء، فأخرجت لهم مركناً من طيب وطيبتهم منه - والمركن، بكسر الميم‏:‏ الإجانة التي تغسل فيها الثياب - وسببه‏:‏ أن غسان كانت تؤدي كل سنة إلى ملك سليح دينارين من كل رجل، وكان يلي ذلك سبطة بن المنذر السليحي، فجاء سبطة يسأل الدينارين من جذع بن عمرو الغساني، فدخل جذع منزله فخرج مشتملاً بسيفه، فضرب به سبطة حتى برد، وقال‏:‏ خذ من جذع ما أعطاك‏.‏ يضرب في اغتنام ما يجود به البخيل‏.‏ وسليح، كجريح‏:‏ قبيلة باليمن‏.‏ وجذع، بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة ثم إن جيش الحارث توجه إلى المنذر، فقالوا‏:‏ أتينا من عند صاحبنا، وهو يدين لك ويعطيك حاجتك؛ فتباشر هو وأصحابه وغفلوا بعض الغفلة، فحمل ذلك الجيش على المنذر فقتلوه‏.‏ فقيل في ذلك اليوم‏:‏ ما يوم حليمة بسر أي‏:‏ بخفي‏.‏ فصار يضرب لكل أمر مشهور‏.‏

وترجمة النابغة تقدمت في الشاهد الرابع بعد المائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد الرابع والعشرون بعد المائتين وهو من شواهد سيبويه‏:‏

فتىً كملت أخلاقه غير أنه *** جواد فما يبقي من لمال باقيا

لما تقدم بله‏.‏ قال ابن جني في إعراب الحماسة‏:‏ أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن، قراءة عليه، عن أحمد بن يحيى قال‏:‏ لما أنشدته - يعني ابن الأعرابي - قول الشاعر‏:‏

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

قال‏:‏ هذا استثناء قيس، يقولون‏:‏ غير أن هذا أشرف من هذا، وهذا أطرف من هذا‏.‏ يكون مدحاً بعد مدح‏.‏ وأنشد فيه أيضاً‏:‏

فتى تمّ فيه ما يسرّ صديقه *** على أن فيه ما يسوء الأعاديا

انقضت الحكاية‏.‏ وهذا الاستثناء على إغرابه جار مجرى الاستثناء المعهود؛ ألا ترى أنه إذا قال‏:‏ فتىً تمّ فيه ما يسر صديقه، جاز أن يظن أنه مقصور على هذا وحده، فإذا قال‏:‏ على أن فيه ما يسوء عاديا، أزال هذا الظن، وصار معناه أن فيه مسرة لأوليائه ومساءة لأعدائه، وليس مقصوراً علىأحد الأمرين‏.‏ فهو إخراج شيء من شيء، لخلاف الثاني الأول‏.‏ وكذلك‏:‏ فتى كملت أخلاقه‏.‏‏.‏ البيت، لما كان إتلافه للمال عيباً عند كثير من الناس، استثنى هذه الحالة فأخرجها من جملة خلال المدح، لمخالفتها إياها عندهم وعلى مذهبهم‏.‏ وليس شيء يعقد على أصله فيخرج عنه شيء منه في الظاهر، إلا وهو عائد إليه وداخل فيه في الباطن، مع التأمل‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

وأورده علماء البديع أيضاً في باب تأكيد المدح بما يشبه الذم‏.‏

وهذا البيت من أبيات للنابغة الجعدي، رثى بها أخاه‏.‏ وقد أوردها أبو تمام في باب المراثي من الحماسة، وهي من قصيدة‏.‏‏.‏وقبله‏:‏

ألم تعلمي أني رزئت محارب *** فما لك منه اليوم شيء ولا ليا

ومن قبله ما قد رزئت بوحوح *** وكان ابن أمي والخليل المصافيا

فتى كملت خيراته غير أنه *** جواد فما يبقي من المال باقيا

فتى تم فيه مايسر صديقه *** على أن فيه ما يسوء الأعاديا

يقول لمن يلحاه في بذل ماله *** أأنفق أيامي وأترك ماليا

يدر العروق بالسنان ويشتري *** من الحمد ما يبقى وإن كان غاليا

قوله‏:‏ ألم تعلمي الخ، يخاطب امرأته‏.‏ ومحارب، قال أبو عبيد البكري في شرح نوادر القالي‏:‏ هو محارب بن قيس بن عدس، من أشراف قومه‏.‏ وهو تفجع وتوجع‏.‏

يقول‏:‏ قد فجعنا به فأصبحنا لا نستمتع به ولا ننتفع بمكانه‏.‏ ثم ذكر أنه قد فجع قبله بأخيه وحوح، وهو مأخوذ من قولهم وحوح الرجل‏:‏ إذا ردد صوتاً في صدره، وهو نحو النحنحة‏.‏

وقوله‏:‏ فتىً كملت الخ، روي أيضاً‏:‏ فتى كملت فيه المروءة، ويجوز أن يحمل الفتى على ابنه وعلى أخيه، قال المرزباني في الموشح‏:‏ أخبرني الصولي عن أبي العيناء عن الأصمعي قال‏:‏ أنشدت الرشيد أبيات النابغة الجعدي، من قصيدته الطويلة‏:‏

فتى تم فيه ما يسر صديقه

فتى كملت أعراقه غير أنه

أشم طويل الساعدين سميدع *** إذا لم يرح للمجد أصبح غاديا

فقال الرشيد‏:‏ ويله، لم لم يروحه في المجد كما أغداه‏!‏ ألا قال‏:‏

إذا راح للمعروف أصبح غاديا

فقلت‏:‏ أنت والله يا أمير المؤمنين، في هذا، أعلم منه بالشعر‏.‏

ومن أبيات الغزل في هذه القصيدة

بدت فعل ود، فلما تبعته *** تولت وبقت حاجتي في فؤاديا

وحلت سواد القلب لا أنا باغي *** سواها ولا في حبها متراخيا

قال شارح أبيات الموشح‏:‏ قوله فعل ذي ود، إما مصدر لبدت، لأن المصادر وما يشتق منها يعبر عنها بلف الفعل، قال تعالى‏:‏ والذين هم للزكاة فاعلون ولفعل محذوف، أي‏:‏ بدت وفعلت فعل ذي ود، أي فاعلةً فعله‏.‏ وقال العيني‏:‏ هو بتقدير‏:‏ كفعل ذي ود، والمعنى‏:‏ فعلت معي فعل ذي محبة‏.‏‏.‏‏.‏

وقوله‏:‏ وحلت سواد القلب، هذا البيت من شواهد النحاة أوردوه شاهداً على عمل لا عمل ليس في المعرفة، وهو شاذ‏.‏ وأجيب عنه بوجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن الأصل لا أرى باغياً، فلما حذف الفعل برز الضمير، فباغياً حال‏.‏ والثاني‏:‏ أن أنا مبتدأ، والفعل المقدر المذكور خبره‏.‏ وروي‏:‏ لا أنا مبتغ سواها وعليه لا شاهد فيه‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد الخامس والعشرون بعد المائتين

فما ترك الصنع الذي قد تركته *** ولا الغي مني ليس جلداً وأعما

على أن ليس، ولا يكون، وخلا، وعدا، لا يستعملن في الاستثناء المفرغ، وقد جاء التفريغ في ليس، كما في البيت، فإن المستثنى منه محذوف، أي‏:‏ ما ترك الصنع شيئاً إلا جلداً وأعظماً‏.‏ فالمنصوب بعد ليس خبرها، واسمها قد بينه الشارح‏.‏ والرواية إنما هي

فما ترك الصنع الذي قد صنعته

بالخطاب مع عمر بن عبد العزيز، أراد بصنعه تقريب ضده‏:‏ زيد بن أسلم، وما عامل به الأحوص من الجفاء‏.‏ وقوله‏:‏ ولا الغيظ عطف على الصنع‏.‏ ثم ذكر الشارح أن هذه الأفعال لم تستعمل إلا في الاستثناء المتصل‏.‏‏.‏ أقول‏:‏ قد وردت خلا في الاستثناء المنقطع، كقول العجاج - وهو من أبياته - كما مر شرحه‏:‏

وبلدة ليس بها طوري *** ولا خلا الجن بها إنسي

فإن قوله إنسي هو المستثنى منه، والجن هو المستثنى، وجنس كل منهما مغاير لجنس الآخر‏.‏

والبيت من قصيدة للأحوص الأنصاري - وتقدمت ترجمته في الشاهد الخامس والثمانين - روى صاحب الأغاني بسنده‏:‏ أن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة أدنى زيد بن أسلم، وجفا الأحوص، فقال له الأحوص‏:‏

ألست أبا حفص هديت مخبريأفي الحق أن أقصى وتدني ابن أسلما

فقال عمر‏:‏ ذلك هو الحق‏.‏‏.‏‏.‏ قال الزبير‏:‏ وأنشدنيها عبد الملك ابن الماجشون‏:‏

ألا صلة الأرحام أقرب للتقى *** وأظهر في أكفائه لو تكرما

فما ترك الصنع الذي قد صنعته *** ولا الغيظ مني ليس جلداً وأعظما

وكنا ذوي قربى إليك فأصبحت *** قرابتنا ثدياً أجد مصرما

وكنت لما أرجوه منك كبارق *** لوى قطره من بعد ما كان غيما

وقد كنت أرجى الناس عندي مودة *** ليالي كان الظن غيباً مرجما

أعدك حرزاً إن جنيت ظلامة *** ومالاً ثرياً حين أحمل مغرما

تدارك بعتبى عاتباً ذا قرابة *** طوى الغيظ لم يفتح بسخط له فما

وهذه القصيدة أرسلها إلى عمر وهو منفي بدهلك، كان سليمان بن عبد الملك قد نفاه - لما تقدم في ترجمته - فبقي هناك محبوساً مدة سليمان، ثم ولي عمر بن عبد العزيز فكتب إليه يستأذنه في القدوم ويمدحه، فأبى أن يأذن له‏.‏ وكان فيما كتب إليه‏:‏

أيا راكباً إما عرضت فبلغن *** هديت أمير المؤمنين رسائلي

وقل لأبي حفص إذا ما لقيته *** لقد كنت نفاعاً قليل الغوائل

فكيف ترى للعيش طيباً ولذة *** وخالك أمسى موثقاً في الحبائل

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد السادس والعشرون بعد المائتين

وكل أبي باسل غير أنني *** إذا عرضت أولى الطرائد أبسل

على أن غيراً تستعمل في الاستثناء المتصل‏.‏ وقد مر مافيه آنفاً‏.‏

وهذا البيت من قصيدة مشهورة للشنفرى تسمى لامية العرب، مطلعها‏:‏

أقيموا بني أمي صدور مطيكم *** فإني إلى قوم سواكم لأميل

فقد حمت الحاجات والليل مقمر *** وشدت لطيات مطايا وأرحل

وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى *** وفيها لمن خاف القلى متغزل

لعمرك ما بالأرض ضيق على امرئ *** سرى راغب وراهباً وهو يعقل

ولي دونكم أهلون‏:‏ سيد عملس *** وأرقط زهلول وعرفاء جيال

هم الأهل لا مستودع السر ذائع *** لديهم ولا الجاني بما جر يخذل

وكل أبي باسل غير أنني

وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن *** بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل

وما ذاك إلا بسطة عن تفضل *** عليهم وكان الأفضل المتفضل

وهذه القصيدة قد شرحها جماعة، منهم الخطيب التبريزي، والزمخشري، وابن الشجري، وابن أكرم‏.‏ ولم يحضرني الآن غير الأول والثاني‏:‏ قال القالي في أماليه‏:‏ إن القصيدة المنسوبة إلى الشنفرى، التي أولها‏:‏ أقيموا بني أمي صدور مطيكم له هي من المقدمات في الحسن والفصاحة والطول‏.‏ وكان أقدر الناس على قافية‏.‏ انتهى‏.‏

وعدتها ثمانية وستون بيتاً، وقد استشهد الشارح منها بستة أبيات أخر في باب الجمع، وفي الأفعال الناقصة، وفي رب من حروف الجر، وفي حروف الشرط‏.‏ وقوله‏:‏ أقيموا بني أمي الخ، يقال‏:‏ أقام صدر مطيته‏.‏ إذا جد في السير، وكذلك إذا جد في أمر كان‏.‏ يؤذن قومه بالرحيل، وأن غفلتهم عنه توجب مفارقتهم‏.‏ وبني أمي‏:‏ منادى، وأضاف الأبناء إلى الأم لأنها أشد شفقة، كما قيل في قوله تعالى حكاية عن هرون‏:‏ يا ابن أم‏.‏ وأميل، هنا بمعنى مائل، ونظيره كثير نحو أكبر وأوحد‏.‏

وقوله‏:‏ فقد حمت الحاجات الخ، يريد تنبهوا من رقدتكم، فهذا وقت الحاجة، ولا عذر لكم، فإن الليل كالنهار في الضوء والآلة حاضرة‏.‏ وحمت بضم الحاء المهملة، يقال‏:‏ حم الشيء، بالبناء للمفعول، أي‏:‏ قدر وهيئ‏.‏

وأقمر الليل، أي‏:‏ أضاء‏.‏و الطية، بكسر الطاء المهملة، قال صاحب الصحاح‏:‏ الطية النية، قال الخليل‏:‏ الطية تكون منزلاً وتكون منتأى، تقول‏:‏ مضى لطيته، أي‏:‏ لنيته التي انتواها، وبعدت عنا طيته وهو المنزل الذي انتواه، ومضى لطيته، وطية بعيدة‏:‏ أي شاسعة‏.‏

وقوله‏:‏ وفي الأرض منأى الخ، المنأى‏:‏ اسم مكان من نأى أي‏:‏ بعد، وهو متعلق قوله عن الأذى‏.‏ والقلى، بكسر القاف‏:‏ البغض، وإن فتحتها مددت‏.‏ ومتعزل، بفتح الزاء‏:‏ اسم مكان من تعزله بمعنى اعتزله‏.‏

وقوله‏:‏ ولي دونكم الخ، أورد الشارح هذا البيت في باب الجمع‏.‏ ودون هنا بمعنى غير‏.‏و السيد، بكسر السين‏:‏ الذئب، والأنثى سيدة، وربما سمي به الأسد‏.‏و العملس، بفتح العين والميم واللام المشددة‏:‏القوي على السير السريع‏.‏ وأراد بالأرقط النمر، وهو ما فيه سواد يشوبه نقط بيض‏.‏و الزهلول بضم الزاي‏:‏ الأملس، وفي العباب‏:‏ يقال للضبع عرفاء لكثرة شعر رقبتها‏.‏ وأنشد هذا البيت‏.‏و جيأل، على وزن فيعل‏:‏ اسم للضبع معرفة، وتكون بدلاً من عرفاء، وهو غير منصرف للعلمية والتأنيث‏.‏

وقوله‏:‏ هم الأهل الخ، أي‏:‏ ما ذكرته من الوحوش هم الأهل لا غيرهم‏.‏ وبين وجه انحصار الأهلية فيهم دون من عداهم من الإنس بقوله‏:‏ لا مستودع السر إلى آخره، أي‏:‏ السر المستودع عندهم غير ذائع‏.‏ والجاني‏:‏ اسم فاعل من جنى عليه جناية، أي‏:‏ أذنب‏.‏ والباء سببية‏.‏ وجر بمعنى جنى، يقال‏:‏ جر عليهم جريرةً، أي‏:‏ جنى عليهم جناية، ويخذل، بالبناء للمفعول، من خذلته وخذلت عنه، من باب قتل، والاسم الخذلان‏:‏ إذا تركت نصرته وإعانته وتأخرت عنه‏.‏

وقوله‏:‏ وكل أبي الخ، أي‏:‏ كل واحد من هذه الوحوش‏.‏ والأبي‏:‏ الصعب الممتنع؛ من أبى بأبى فهو آب وأبي‏.‏

والباسل‏:‏ الجريء الشجيع؛ من بسل بسالة، مثل ضخم ضخامة، بمعنى شجع فهو باسل‏.‏ وقوله‏:‏ غير أنني الخ، استثناء منقطع‏.‏ وعرضت من عرض له كذا، من باب ضرب‏:‏ أي‏:‏ ظهر‏.‏ وأولى‏:‏ مؤنث الأول‏.‏ والطريدة‏:‏ ما طردت من صيد وغيره، والمراد هنا الفرسان ومطاردة الأقران في الحرب إذا حمل بعضهم على بعض؛ يقال‏:‏ هم فرسان الطراد‏.‏ وأبسل‏:‏ أفعل تفضيل‏.‏

وقوله‏:‏ وإن مدت الأيدي الخ، وصف عدم شرهه على الطعام وصبره على الجوع‏.‏ وهذا مدح عند العرب‏.‏ والزاد‏:‏ ما يؤكل؛ وأصله الطعام المتخذ للسفر‏.‏ والباء في قوله‏:‏ بأعجلهم، زائدة دخلت في خبر الكون المنفي‏.‏ وقد استشهد له شراح الألفية بهذا البيت‏.‏ وأجشع‏:‏ أفعل تفضيل من الجشع بفتحتين، وهو أشد الحرص؛ وفعله من باب فرح‏.‏ وأعجل، الأول، بمعنى عجل بفتح فكسر، لا أنه أفعل تفضيل كالثاني، لأن مراده أن ينفي العجلة كبير مدح‏.‏ والشرط والجواب هنا، كلهما حكاية حال ماضية، ولذلك صح وقوع لم في جواب الشرط‏.‏

وقوله‏:‏ وما ذاك إلا بسطة الخ، الإشارة راجعة إلى عدم مد يده إلى الزاد مستعجلاً، وقيل راجعة إلى مجموع ما مدح به نفسه‏.‏ والبسطة‏:‏ السعة‏.‏ والتفضل‏:‏ الإنعام يقال‏:‏ تفضل عليه وأفضل إفضالاً بمعنى‏.‏ والأفضل خبر كان تقدم على اسمها وهو المتفضل‏.‏

والشنفرى شاعر جاهلي قحطاني من الأزد‏.‏ وهو كما في الجمهرة وغيرها من بني الحارث بن ربيعة بن الأواس بن الحجر بن الهنء بن الأزد‏.‏ وهو بفتح الشين وآخره ألف مقصورة وهو اسمه‏.‏

والأواس بفتح الهمزة‏.‏ والحجر بفتح الحاء المهملة وسكون الجيم‏.‏ والهنء بتثليث الهاء وسكون النون وبعدها همزة‏.‏

وزعم بعضهم أن الشنفرى لقبه - ومعناه عظيم الشفة - وأن اسمه ثابت بن جابر‏.‏ وهذه غلظ كما غلظ العيني في زعمه أن اسمه عمرو بن براق بفتح الباء وتشديد الراء المهملة بل هما صاحباه في التلصص، وكان الثلاثة أعدى العدائين في العرب، لم تلحقهم الخيل؛ ولكن جرى المثل بالشنفرى فقيل‏:‏ أعدى من الشنفرى‏.‏

ومن حديثه ما ذكره أبو عمرو الشيباني - كما نقله ابن الأنباري في شرح المفضليات، وحمزة الأصبهاني في الدرة الفاخرة -؛ قال‏:‏ أغار تأبط شراً - وهو ثابت بن جابر - والشنفرى الأزدي، وعمرو بن براق على بجيلة بفتح الباء وكسر الجيم‏.‏ فوجدوا بجيلة قد أقعدوا لهم على الماء رصداً؛ فلما مالوا له في جوف الليل قال لهم تأبط شراً‏:‏ إن بالماء رصداً‏.‏ وإني لأسمع وجيب قلوب القوم - أي‏:‏ اضطراب قلوبهم - قالوا‏:‏ والله ما نسمع شيئاً، ولا هو إلا قلبك يجب‏!‏ فوضع يده على قلبه فقال‏:‏ والله ما يجب وما كان وجاباً‏!‏ قالوا‏:‏ فلا والله ما لنا بد من ورود الماء‏!‏ فخرج الشنفرى، فلما رآه الرصد عرفوه، فتركوه فشرب ثم رجع إلى أصحابه فقال‏:‏ والله ما بالماء أحد، ولقد شربت من الحوض‏!‏ فقال تأبط شراً‏:‏ بلى، لا يريدونك ولكن يريدونني‏.‏

ثم ذهب ابن براق فشرب ثم رجع، فلم يعرضوا له، فقال‏:‏ ليس بالماء أحد‏!‏ فقال تأبط شراً‏:‏ بلى، لا يريدونك ولكن يريدونني‏!‏ ثم قال للشنفرى‏:‏ إذا أنا كرعت في الحوض فإن القوم سيشدون علي فيأسرونني، فاذهب كأنك تهرب ثم ارجع فكن في أصل ذلك القرن، فإذا سمعتني أقول‏:‏ خذوا، خذوا فتعال فاطلقني‏.‏ وقال لابن براق‏:‏ إني سآمرك إن تستأسر للقوم، فلا تبعد منهم ولا تمكنهم من نفسك‏.‏

ثم أقبل تأبط شراً، حتى ورد الماء، فلما كرع في الحوض شدوا عليه فأخذوه وكتفوه بوتر، وطار الشنفرى فأتى حيث أمره، وانحاز ابن براق حيث يرونه؛ فقال تأبط شراً‏:‏ يا بجيلة، هل لكم في خير‏!‏ هل لكم أن تياسرونا في الفداء ويستأسر لكم ابن براق‏!‏ فقالوا‏:‏ نعم، ويلك يا ابن براق‏!‏ إن الشنفرى قد طار، فهو يصطلي نار بني فلان، وقد علمت الذي بيننا وبين أهلك، فهل لك أن تستأسر ويياسرونا في الفداء‏!‏ فقال‏:‏ أما والله حتى أروز نفسي شوط وشوطين‏.‏

فجعل يعدو في قبل الجبل ثم يرجع، حتى إذا رأوا أنه قد أعيا وطمعوا فيه اتبعوه، ونادى تأبط شراً‏:‏ خذوا‏!‏ خذوا‏!‏ فذهبوا يسعون في أثره؛ فجعل يطعمهم ويبعد عنهم؛ ورجع الشنفرى إلى تأبط شراً فقطع وثاقه، فلما رآه ابن براق قد قطع عنه انطلق، وكر إلى تأبط شراً فإذا هو قائم؛ فقال‏:‏ أعجبكم يا معشر بجيلة عدو ابن براق، أما والله لأعدون لكم عدواً أنسيكموه‏!‏ ثم انطلق هو والشنفرى‏.‏ انتهى‏.‏

ومن المشهورين في العدو السليك بن السلكة وهو تميمي من بني سعد‏.‏ والسليك بالتصغير‏:‏ فرخ الحجلة، والنثى سلكة بضم السين وفتح اللام؛ وهي اسم أمه، وكانت سوداء، وإليها نسب‏.‏

وذكر أبو عبيدة السليك في العدائين، مع المنتشر بن وهب الباهلي، وأوفى بن مطر المازني‏.‏ والمثل للسليك من بينهم، فقيل‏:‏ أعدى من السليك‏.‏

ومن حديثه فيما ذكره أبو عبيدة، كما نقله حمزة الأصبهاني في الدرة الفاخرة‏:‏ أن السليك رأته طلائع لجيش بكر بن وائل، جاؤوا متجردين ليغيروا على بني تميم، ولا يعلم بهم، فقالوا‏:‏ إن علم بنا السليك أنذر قومه فبعثوا إليه فارسين على جوادين، فلما هايجاه خرج يعدو كأنه ظبي، فطارداه يوماً أجمع، ثم قالا‏:‏ إذا كان الليل أعيا فيسقط فنأخذه‏.‏

فلما أصبحا وجدا أثره قد عثر بأصل شجرة، وقد وثب وانحطمت قوسه؛ فوجدا قطعة منها قد ارتزت بالأرض؛ فقالا‏:‏ لعل هذا كان من أول الليل ثم فتر، فتبعاه فإذا أثره متفاجاً قد بال في الأرض وخدها، فقالا‏:‏ ماله‏!‏ قاتله الله‏!‏ ما أشد متنه‏!‏ والله لا نتبعه‏!‏ فانصرفا‏.‏ ووصل السليك إلى قومه فأنذرهم، فكذبوه لبعد الغاية، وجاء الجيش فأغاروا عليهم‏.‏

رجعنا إلى حديث الشنفرى‏.‏ روى الأصبهاني في الأغاني، وابن الأنباري في شرح المفضليات‏:‏ أن الشنفرى أسرته بنو شبابة وهم حي من فهم بن عمرو بن قيس عيلان وهو غلام صغير، فلم يزل فيهم حتى أسرت بنو سلامان بن مفرج بسكون الفاء وآخره جيم رجلاً من فهم ثم أحد بني شبابة بفتح الشين المعجمة، ففدته بنو شبابة بالشنفرى؛ فكان الشنفرى في بني سلامان بفتح المهملة يظن أنه أحدهم، حتى نازعته ابنة الرجل الذي كان في حجره - وكان قد اتخذه ابناً - فقال لها‏:‏ اغسلي رأسي يا أخية فأنكرت أن يكون أخاها فلطمته، فذهب مغاضباً إلى الذي هو في حجره فقال له‏:‏ أخبرني من أنا‏؟‏ فقال له‏:‏ أنت من الأواس بن الحجر؛ فقال‏:‏ أما إني سأقتل منكم مائة رجل بما اعتبدتموني‏!‏ ثم إن الشنفرى لزم دار فهم وكان يغير على بني سلامان على رجليه فيمن تبعه من فهم، وكان يغير عليهم وحده أكثر، وما زال يقتل منهم حتى قتل تسعة وتسعين رجلاً، حتى قعد له في مكان أسيد بن جابر السلاماني بفتح الهمزة وكسر السين ومع أسيد ابن أخيه وخازم البقمي - وكان الشنفرى قتل أخا أسيد بن جابر - فمر عليهم الشنفرى، فأبصر السواد بالليل فرماه - وكان لا يرى سواداً إلا رماه - فشك ذراع ابن أخي أسيد إلى عضده، فلم يتكلم، وكان خازم منبطحاً يرصده، فقطع الشنفرى بضربة أصبعين من أصابع خازم، وضبطه خازم حتى لحقه أسيد وابن أخيه، فأخذوا سلاح الشنفرى وأسروه وأدوه إلى أهلهم، وقالوا له‏:‏ أنشدنا فقال‏:‏ إنما النشيد على المسرة فذهبت مثلاً‏.‏ ثم ضربوا يده فقطعوها؛ ثم قالوا له - حين أرادوا قتله - أين نقبرك‏؟‏ فقال‏:‏

لا تقبروني‏!‏ إن قبري محرم *** عليكم ولكن أبشري أم عامر

إذا احتملت رأسي وفي الرأس أكثري *** وغودر عند الملتقى ثم سائري

هنالك لا أرجو حياةً تسرني *** سجيس الليالي مبسلاً بالجرائر

وكانت حلفة الشنفرى على مائة قتيل من بني سلامان، فبقي عليه منهم رجل إلى أن قتل‏.‏ فمر رجل من بني سلامان بجمجمته، فضرها برجله فعقرته فتم به عدد المائة‏!‏‏.‏‏.‏ وذرع خطو الشنفرى يوم قتل، فوجد أول نزوة نزاها إحدى وعشرين خطوةً، والثانية سبع عشرة خطوةً‏.‏‏.‏‏.‏ وكان حرام بن جابر - أخو أسيد بن جابر المذكور - قتل أبا الشنفرى؛ ولما قدم منى، وبها حرام بن جابر، فقيل للشنفرى‏:‏ هذا قاتل أبيك، فشد عليه فقتله، ثم سبق الناس على رجليه وقال‏:‏

قتلت حراماً مهدياً بملبد *** ببطن منى وسط الحجيج المصوت

فوصد له أسيد بن جابر، فأمسكه مع ابن أخيه‏.‏

وقيل في سبب قتل الشنفرى غير هذا، وهو مسطور في شرح المفضليات والأغاني‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد السابع والعشرون بعد المائتين وهو من شواهد س‏:‏

في ليلة لا نرى بها أحد *** يحكي علينا إلا كواكبها

على أن قوله كواكبها بالرفع بدل من الضمير في يحكي الراجع إلى أحد، مع أن مرجع الضمير ليس معمولاً للابتداء وأحد نواسخه‏.‏ وأما نرى فهي بصرية، والمبصر هو أحد وكواكبها، لا أنها قلبية فتكون من النواسخ؛ خلافاً لسيبويه فيهما، أي‏:‏ في اشتراط مرجع الضمير أن يكون معمولاً للابتداء وناسخه، وفي جعله نرى قلبية‏.‏

هذا محصلما نقله الشارح المحقق عن سيبويه، وليس في كلام سيبويه في هذا المقام واحد منهما، ولعل ما نقله الشارح ثابت في موضع آخر من كتابه‏.‏ وأما عبارته هنا فهي هذه‏:‏ وتقول ما مررت بأحد يقول ذاك إلا عبد الله وما رأيت أحداً يفعل ذلك إلا زيداً‏.‏ هذا وجه الكلام‏.‏ وإن حملته على الإضمار الذي في الفعل، فقلت‏:‏ غلآ زيد - فرفعت - فعربي، قال الشاعر‏:‏

في ليلة لا نرى بها أحد *** يحكي علينا إلا كواكبها

وكذلك ما أظن أحداً يقول ذلك إلا زيداً‏.‏ وإن رفعت فجائز حسن‏.‏ وإنما اختير النصب ها هنا، لأنهم أرادوا أن يجعلوا المستثنى بمنزلة المبدل منه، ولا يكون بدلاً إلا من منفي، لأن المبدل منه منصوب منفي، ومضمره مرفوع، فأرادوا أن يجعلوا المستثنى بدلاً من أحد، لأنه هو المنفي، وجعلوا يقول ذلك وصفاً للمنفي‏.‏ وقد تكلموا بالآخر لأن معناه معنى المنفي إذ كان وصفاً لمنفي‏.‏ انتهى كلام سيبويه‏.‏

وهو صريح في عدم اشتراط واحد منهما، يدلك عليه عطف قوله‏:‏ وكذلك ما أظن أحداً يقول ذلك إلا زيداً، على قوله‏:‏ ما رأيت أحداً يفعل ذلك إلا زيداً؛ فإنه سوى بين الفعل القلبي والفعل البصري وغيرهما‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ تكلموا بالآخر، أي‏:‏ تكلموا بالرفع في المستثنى‏.‏

وكذلك في شرح أبيات سيبويه للنحاس والأعلم‏:‏ قال النحاس‏:‏ قال محمد بن يزيد‏:‏ أبدل الكواكب من المضمر في يحكي؛ ولو أبدله من أحد لكان أجود، لأن أحداً منفي في اللفظ والمعنى، والذي في الفعل بعده منفي في المعنى‏.‏

قال‏:‏ ومثل ذلك ما علمت أحداً دخل الدار إلا زيداً؛ وإلا زيد، النصب على البدل من أحد وعلى أصل الاستثناء، والرفع على البدل من المضمر انتهى‏.‏

قال ابن هشام في المغني في القاعدة التي يعطى الشيء فيها حكم ما أشبهه في معناه، من الباب الثامن‏:‏ قولهم إن أحداً لايقول ذلك، فأوقع أحد في الإثبات لأنه نفس الضمير المستتر في يقول، والضمير في سياق النفي، فكأن أحداً كذلك وقال‏:‏

في ليلة لا نرى بها أحداً

فرفع كواكبها بدلاً من ضمير يحكي، لأنه راجع إلى أحد، وهو واقع في سياق غير الإيجاب، فكان الضمير كذلك‏.‏

وقال أيضاً، في باب الاستثناء، من الجهة الخامسة من الباب الخامس‏:‏ إن قلت ما رأيت أحداً يقول ذلك إلا زيد، إن رفع زيد فرفعه من وجه وهو كونه بدلاً من ضمير يقول، ومنه هذا البيت‏.‏ وإن نصب فنصبه من وجهين على البدلية من أحد، وعلى الاستثناء‏.‏ فإن قلت‏:‏ ما أحد يقول ذلك إلا زيد، فرفعه من وجهين‏:‏ كون زيد بدلاً من أحد، وهو المختار، وكونه بدلاً من ضميره؛ ونصبه من جهة وهو على الاستثناء وسيأتي بيان هذا في الشرح قريباً‏.‏

وقد نقل الدماميني هنا ما اعترض به الشارح المحقق على سيبويه ولم يزد عليه بشيء‏.‏

وقال ابن الشجري في أماليه‏:‏ رفع كواكبها على البدل من المضمر في يحكي، ولولا احتياجه إلى تصحيح القافية كان النصب فيها أولى من ثلاثة أوجه‏:‏ إبدالها من الظاهر الذي تناوله النفي على الحقيقة، والثاني‏:‏ نصبها على أصل باب الاستثناء كقراءة ابن عامر‏:‏ ما فعلوه إلا قليلاً منهم والثالث‏:‏ أنه استثناء من غير الجنس كقولك‏:‏ ما في الدار أحد إلا الخيام‏.‏ وأهل الحجاز مجمعون فيه على النصب، وعلى ذلك أجمع القراء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مالهم به من علم إلا اتباع الظن انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ يحكي علينا الحكاية بمعنى الرواية‏.‏ وعلى بمعنى عن؛ وقد يقال ضمن يحكي معنى ينم‏.‏ قالهما ابن هشام في الباب الأول من المغني‏.‏

وهذا البيت نسبه الشارح المحقق إلى عدي بن زيد، موافقة لشراح شواهد سيبويه ولم ينسبه سيبويه في كتابه إلى أحد، وإنما أورده غفلاً‏.‏ وقد تصفحت ديوان عدي بن زيد مرتين فلم أجده فيه؛ وإنما هذا البيت من أبيات لأحيحة بن الجلاح الأنصاري، أثبتها له الأصبهاني في الأغاني، وهي‏:‏

يشتاق قلبي إلى مليكة لو *** أمسى قريباً لمن يطالبها

ما أحسن الجيد من مليكة وال *** لبات إذ زانها ترائبها

يا ليتني ليلة إذا هجع ال *** ناس ونام الكلاب صاحبها

في ليلة لا نرى بها أحد *** يحكي علينا إلا كواكبها

لتبكني قينة ومزهره *** ولتبكني قهوة وشاربها

ولتبكني ناقة إذا رحلت *** وغاب في سربخ مناكبها

ولتبكني عصبة إذا اجتمعت *** لم يعلم الناس ما عواقبها

وبهذه الأبيات عرف أن القافية مرفوعة‏.‏

وقوله‏:‏ لو أمسى الخ، لو للتمني؛ واسم أمسى ضمير القلب؛ ومن موصولة بمعنى‏:‏ التي‏.‏ ومليكة، بالتصغير‏:‏ اسم امرأة‏.‏ وقوله‏:‏ ما أحسن الجيد، ما تعجبية‏.‏ واللبة بفتح اللام‏:‏ موضع القلادة من الصدر‏.‏ والترائب‏:‏ جمع تريبة وهي عظام الصدر ما بيت الترقوتين إلى الثدي‏.‏

وقال ابن الشجري‏:‏ اللبة‏:‏ الموضع الذي عليه طرف القلادة‏.‏ والترائب واحدتها تريبة، وقيل تريب، وهو الصدر؛ وإنما جمعهما لما حولهما؛ كأنه سمّى ما يجاور اللبة لبّة، وما يجاور التربية تربية؛ كما قالوا‏:‏ شابت مفارقه‏.‏ وقوله‏:‏ يا ليتني ليلة الخ، صاحبها خبر ليت؛ وليلة ظرف لصاحبها؛ وإذا بدل منها بدل اشتمال، والمضير مقدّر، أي‏:‏ هجع الناس فيها‏.‏

وقوله‏:‏ في ليلة لا نرى بها‏.‏‏.‏‏.‏ الخ في ليلة بدل من قوله إذا، وجملة لا نرى بها الخ صفة ليلة؛ ونرى بالنون، يوروى بالتاء؛ وهو قريب‏.‏ وجملة يحكي علينا‏:‏ صفة أحداً‏.‏ وروي بدله‏:‏ يسعى علينا من سعى به إلى الوالي‏:‏ إذا وشى به ونمّ عليه‏.‏

وقوله‏:‏ تبكني، هو أمر الغائب‏.‏ والقينة، بالفتح‏:‏ الأمة، مغنية كانت كما هن وغير مغنية‏.‏ والمزهر، بكسر الميم‏:‏ العود الذي يضرب به، من آلات الملاهي‏.‏ والقهوة‏:‏ الخمر‏.‏ وقوله‏:‏ إذا رحلت، بالبناء للمفعول، من رحلت البعير رحلاً، من باب نفع‏:‏ إذا شددت عليه رحله؛ وهو أصغر من القتب‏.‏

وقوله‏:‏ وغاب في سربخ الخ، السربخ، بفتح السين وسكون الراء المهملتين وفتحالموحدة وآخره خاء معجمة‏:‏ الأرض الواسعة‏.‏ وقوله‏:‏ ما عواقبها، ما استفهامية مبتدأ وعواقبها الخبر، والجملة في موضع مفعولي علم المعلّق عن العمل بالاستفهام‏.‏

وقال ابن الشجري في أماليه، مشيراً إلى أن هذا البيت لأحيحة بن الجلاح بقوله‏:‏ والبيت الذي أنشده سيبلويه شاهداً على جواز الرفع، من مقطوعة لرجل من الأنصار‏.‏ وروي أنه لما أدخلت حبابة على يزيد بن عبد الملك، دخلت وعليها ثياب معصفرة، وبيدها دفّ، وهي تصفقه بيدها وتغني بهذه الأبيات‏:‏

ما أحسن الجيد من مليكة وال *** لّبات إذ زانها ترائبها

يا ليتني ليلةً إذا هجع ال *** ناس ونام الكلاب صاحبها

في ليلة لا نرى بها أحد *** يحكي علينا إلا كواكبها

ثم قال ابن الشجري‏:‏ ووقع في أكثر نسخ كتاب سيبويه غير منسوب إلى شاعر مسمّى، ووجدته في كتاب لغويّ منسوباً إلى عدي بن زيد، وتصفحت نسختين من ديوان شعر عديّ فلم أجد فيهما هذه المقطوعة، بل وجدت له قصيدة على هذا الوزن وهذه القافية، أولها‏:‏

لم أر مثل الأقوام في غبن الأيام *** ينسون ما عواقبها

يرون إخوانهم ومصرعهم *** وكيف تعتاقهم مخالبها

فما ترجّي النفوس من طلب الخير *** وحب الحياة كاذبها

ثم قال‏:‏ قوله‏:‏ في غبن الأيام، يدلّ على أنهم قد استعملوا الغبن المتحرك الأوسط في البيع، والأشهر غبنه في البيع غبناً، بسكون وسطه؛ والأغلب على الغبن المفتوح أن يستعمل في الرأي، وفعله غبن يغبن، مثل فرح يفرح، يقال‏:‏ غبن رأيه؛ والمعنى‏:‏ في رأيه‏.‏ ومفعول الغبن في البيت محذوف، أي‏:‏ في غبن الأيام إياهم‏.‏ ومما استعمل فيه الغبن المفتوح الأوسط في البيع، قول الأعشى‏:‏

لا يقبل الرشوة في حكمه *** ولا يبالي غبن الخاسر

وقوله‏:‏ ما عواقبها، ما استفهامية وينسون معلّق كما علّق نقيضه، وهو يعلمون؛ والتقدير‏:‏ ينسون أيّ شيء عواقبها‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ وحب الحياة كاذبها، أن حب النفوس للحياة قد يستحيل بغضاً، لما يتكرر عليها من الشدائد والآفات التى يتمنى صاحبها الموت، كما قال المتنبي‏:‏

كفى بك داء أن ترى الموت شافي *** وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا

وبعد أن نسب هذه الأبيات صاحب الأغاني لأحيحة بن الجلاح، بيّن منشأها فقال‏:‏ إن تبّعاً الأخير، وهو أبو كرب بن حسان بن تبّع بن أسعد الحميري، أقبل من اليمن يريد الشرق كما كانت التبابعة تفعل - فمرّ بالمدينة فخلّف بها ابنه ومضى، حتى قدم العراق، فنزل بالمشقّر؛ فقتل ابنه بالمدينة غيلة فبلغه الخبر، فكرّ راجعاً حتى دخل المدينة، وهو مجمع على إخرابها، وقطع نخلها، واستئصال أهلها وسبي الذرّية؛ فنزل بسفح أحد فاحتفر بها بئراً - في التي يقال لها إلى اليوم‏:‏ بئر الملك - ثم أرسل إلى أشراف أهل المدينة ليأتوه، فكان ممن أرسل إليه زيد بن ضبيعة، وابن عمّه زيد بن أمية، وابن عمه زيد بن عبيد وكانوا يسمون الأزياد، وأحيحة بن الجلاح؛ فلما جاء رسوله قال الأزياد‏:‏ غنما أرسل إلينا ليملّكنا على أهل يثرب‏؟‏ فقال أحيحة‏:‏ والله ما دعاكم لخير‏؟‏ - وكان يقال إن مع أحيحة تابعاً من الجن يعلمه الخبر، لكثرة صوابه، لأنه كان لا يظن شيئاً إلا كان كما يقول - فخرجوا إليه، وخرج أحيحة ومعه قينة له، وخباء، وخمر، فضرب الخباء وجعل فيه القينة والخمر، ثم استأذن على تبّع، فأذن له ةوأجلسه على زربيّة تحته، وتحدث معه وسأله عن أمواله بالمدينة؛ فجعل يخبره عنها؛ فخرج من عنده فدخل خباءه فشرب الخمر، وقرض أبياتاً وامر القينى أن تغنيه بها؛ وجعل تبّع عليه حرساً وكانت قينته تدعى مليكة، فقال‏:‏

يشتاق قلبي إلى مليكة لو *** أمسى قريباً لمن يطالبها

الأبيات المتقدمة‏.‏ فلم تزل القينة تغنيه بذلك يومه وعامّة ليلته؛ فلما نام الحرس قال لها‏:‏ إني ذاهب إلى أهلي فشدّي عليك الخباء، فإذا جاء رسول الملك فقولي‏:‏ هو نائم؛ فإذا أبوا إلا أن يوقظوني فقولي‏:‏ قد رجع إلى أهله أرسلني إلى الملك برسالة، فإن ذهبوا بك إليه فقولي‏:‏ يقول لك أحيحة اغدر بقينة ودع ثم انطلق فتحصّن في أطمه الضحيان، فأرسل تبّع من جوف الليل إلى الأزياد فقتلهم‏.‏

وأرسل إلى أحيحة ليقتله فخرجت إليهم القينة، فقالت‏:‏ هو راقد فانصرفوا وترددوا عليها مراراً؛ كل ذلك تقول‏:‏ هو راقد‏؟‏‏؟‏‏!‏ ثم عادوا فقالوا‏:‏ لتوقظنّه ولندخلن عليك‏؟‏ قالت‏:‏ فإنه قد رجع إلى أهله وأرسلني إلى الملك برسالة‏!‏ فذهبوا بها إلى الملك وأبلغته الرسالة، فجرّه له كتيبة من خيله ثم أرسلهم في طلبه، فوجدوه قد تحصّن في أطمه؛ فحاصروه ثلاثاً، فكان يقاتلهم بالنهار ويرميهم بالنبل والحجارة، ويرمي إليهم في الليل بالتمر‏.‏

فلما مضت الثلاث رجعوا إلى تبع فقالوا‏:‏ بعثتنا إلى رجل يقاتلنا بالنهار ويضيفنا في الليل‏!‏ فتركه وأمرهم أن يحرقوا نخله، وشبّت الحرب بين أهل المدينة‏:‏ اوسها وخزرجها ويهودها، وبين تبّع، وتحصنوا في الآطام؛ فخرج رجل من أصحاب تبّع حتى جاء بني عدي بن النجار وهم متحصنون في أطمهم، فدخل حديقة من حدائقهم فرقي بها عذقاً منها يجدّها، فاطلع إليه رجل من بني عدي من الأطم، فنزل إليه فضربه بمنجل حتى قتله، ثم ألقاه في بئر، فلما انتهى ذلك لى تبّع زاده غيظاً وحنقاً، وجرد إلى بني النجار جريدة من خيله، فقاتلهم بنو النجار‏.‏‏.‏‏.‏ فبينا يريد تبع إخراب المدينة اتاه حبران من اليهود فقالا‏:‏ أيها الملك، انصرف عن هذه البلدة، فإنها محفوظة، وإنها مهاجر نبي من بني إسماعيل، اسمه أحمد، يخرج من هذا الحرم‏.‏ فأعجبه ما سمع منهما وكفّ عن أهلها‏.‏ انتهى ما نقلته من الأغاني مختصراً‏.‏

والأطم، قال في الصحاح‏:‏ هو مثل الأجم، يخفف ويثقّل، والجمع آطام وهي حصون لأهل المدينة، والواحدة أطمة بفتحات‏.‏ والضحيان، بفتح الضاد المعجمة وسكون الحاء المهملة وبعدها ياء مثناة تحتية‏:‏ اسم حصن لأحيحة، وقد بينه صاحب الأغاني بعد هذا فقال‏:‏ وكان لأحيحة أطمان، أطم في قومه يقال له المستظل، وهو الذي تحصن فيه حين قاتل تبعاً أبا كرب الحميري، وأطمه الضحيان بالعصبة في أرضه التي يقال لها الغابة، بناه بحجارة‏.‏ وكانت الآطام عزّهم ومنعتهم وحصونهم التي يتحرزون فيها من عدوهم‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

وقد خالف بين كلاميه فقال هناك‏:‏ تحصّن بأطمه الضحيان‏.‏ وقال في موضع آخر‏:‏ تحصن في أطمه المستظل‏.‏

وأحيحة هو أحيحة بن الجلاح بن الحريش بن جحجبى بن كلفة بن عوف بن عمرو بن مالك بن الأوس‏.‏ ويكنى أحيحة أبا عمرو‏.‏

وأحيحة بضمّ الهمزة وبالحاءين المهملتين‏:‏ مصغّر الأحيحة، وهو الغيظ وحزازة الغمّ‏.‏ والجلاح بضم الجيم وتخفيف اللام وآخره حاء مهملة وهو في اللغة السيل الجراف‏.‏ والحريش بفتح الحاء وكسر الراء المهملتين وآخره شين معجمه، وهو نوع من الحيات أرقط‏.‏ وجحجبى بحاء مهملة ساكنة بين جيمين مفتوحتين وبعد الموحدة ألف مقصورة، وهذه المادة غير مذكورة في الصحاح، قال صاحب القاموس‏:‏ جحجب العدو‏:‏ أهلكه؛ وفي الشيء‏:‏ تردد وجاء وذهب‏.‏ وجحجب‏:‏ اسم‏.‏ وجحجبى‏:‏ حي من الأنصار انتهى‏.‏

وكلفة بضم الكاف وسكون اللام‏.‏

وكان أحيحة سيد الأوس في الجاهلية، وكانت أم عبد المطلب بن هاشم تحته‏.‏ والمنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة، صحابي شهد بدراً وقتل يوم بئر معونة؛ كذا في الجمهرة‏.‏ وعد عبدان في الصحابة محمد بن عقبة هذا، لكنه نسبه إلى جده فقال‏:‏ محمد بن أحيحة‏.‏ وقال‏:‏ بلغني أنه أول من سمي محمداً؛ وأظنه أحد الأربعة الذين سموا محمداً قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأبوه كان زوج سلمى أم عبد المطلب‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ من يكون أبوه تزوج أم عبد المطلب، مع طول عمر عبد المطلب، كيف تكون له صحبة مع النبي صلى الله عليه وسلم‏؟‏‏!‏ هذا بعيد؛ ولعله محمد بن المنذر بن عقبة بن أحيحة الذي ذكروا أباه فيمن شهد بدراً‏.‏ قال ابن حجر في الإصابة‏:‏ وفيه نظر، لأنهم لم يذكروا للمنذر ولداً اسمه محمد انتهى‏.‏

والصواب ما في الجمهرة، وبه يزول الإشكال‏.‏

قال صاحب الأغاني‏:‏ وكانت عند أحيحة سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش، إحدى نساء بني عدي بن النجار، له منها عمرو بن أحيحة؛ ثم أخذها هاشم بعد أحيحة فولدت له عبد المطلب بن هاشم؛ وكانت امرأةً شريفة لا تنكح الرجال إلا وأمرها بيدها، وإذا كرهت من رجل شيئاً تركته‏.‏

وكان أحيحة كثير اللمال شحيحاً عليه، يبيع بيع الربا بالمدينة، حتى كاد يحيط بأموالهم؛ وكان له تسع وتسعون بئراً كلها ينضح عليها؛ وكان له أطمان‏:‏ أطم في قومه يقال له المستظل - وهو الذي تحصن فيه حين قاتل تبعاً الحميري - وأطمه الضحيان بالعصبة في أرضه التي يقال لها الغابة، بناه بحجارة سود ويزعمون أنه لما بناه أشرف هو وغلام له ثم قال‏:‏ لقد بنيت حصناً حصيناً ما بنى مثله رجل من العرب أمنع منه، ولقد عرفت موضع حجر منه لو نزع وقع جميعاً‏.‏

فقال غلامه‏:‏ أنا أعرفه‏!‏ قال‏:‏ فأرنيه يا بني‏!‏ قال‏:‏ هو هذا‏!‏ وصرف إليه رأسه؛ فلما رأى أحيحة أنه قد عرفه دفعه من رأس الأطم فوقع على رأسه فمات‏.‏ وإنما قتله لئلا يعرف ذلك الحجر أحد‏.‏ فلما بناه قال‏:‏

بنيت بعد مستظل ضاحي *** بنيته بعصبة من ماليا

للستر مما يتبع القواضي *** أخشى ركيب ورجيلا غاديا

وسيأتي - إن شاء الله تعالى - تتمة الكلام عليه في شرح شواهد الشافية، عند شرح قوله‏:‏ أخشى ركيب ورجيلاً غاديا‏.‏ فإنه من شواهده وشواهد الكشاف أيضاً‏.‏ ولم يعرف أحد تتمته ولا أصله، ممن كتب على الكشاف وغيره‏.‏

واعلم أن جملة من سمي بمحمد في الجاهلية، ذكرهم ابن حجر في شرح البخاري‏.‏ وهذا كلامه‏:‏ قال عياض‏:‏ حمى الله عز وجل هذا الاسم أن يسمى به أحد قبله؛ وإنما سمى بعض العرب محمداً قرب ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، لما سمعوا من الكهان والأحبار، أن نبياً سيبعث في ذلك الزمان يسمى محمداً، فرجوا أن يكونوا هم، فسموا أبناءهم بذلك، وهم ستة لا سابع لهم‏.‏ كذا قال‏.‏

وقال السهيلي في الروض الأنف‏:‏ لا يعرف في العرب من تسمى محمداً قبل النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة‏:‏ محمد بن سفيان بن مجاشع، ومحمد بن أحيحة بن الجلاح، ومحمد بن حمران بن ربيعة‏.‏

وسبق السهيلي إلى هذا القول أبو عبد الله بن خالويه في متاب ليس‏.‏ وهو حصر مردود‏.‏ وقد جمعت أسماء من تسمى بذلك في جزء مفرد فبلغوا نحو العشرين، لكن مع تكرير في بعضهم ووهم في بعض، فتلخص منه خمسة عشر نفساً‏.‏

وأشهرهم محمد بن عدي بن ربيعة التميمي السعدي‏.‏ وقد سئل محمد بن ربيعة - والسائل ابنه - قال له‏:‏كيف سماك أبوك في الجاهلية محمداً‏؟‏ قال‏:‏ سألت أبي عما سألتني فقال‏:‏ خرجت رابع أربعة من بني تميم أنا أحدهم، وسفيان بن مجاشع، ويزيد بن عمرو بن ربيعة، وأسامة بن مالك بن حبيب بن العنبر، نريد ابن جفنة الغساني بالشام، فنزلنا على غدير دير، فأشرف علينا الديراني فقال لنا‏:‏ إنه سيبعث منكم وشيكاً نبي، فسارعوا إليه‏.‏ فقلنا‏:‏ ما اسمه‏؟‏ قال‏:‏ محمد‏.‏ فلما انصرفنا ولد لكل منا ولد فسماه محمداً‏.‏

وقال ابن سعد، عن علي بن محمد عن مسلمة بن محارب عن قتادة بن السكن قال‏:‏ كان في بني تميم محمد بن سفيان بن مجاشع، قيل لأبيه‏:‏ إنه سيكون نبي في العرب اسمه محمد؛ فسمى ابنه محمداً‏.‏ فهؤلاء الأربعة ليس في السياق ما يشعر بأن فيهم من له صحبة، إلا محمد بن عدي‏.‏

قال ابن سعد لما ذكره في الصحابة‏:‏ عداده في أهل الكوفة‏.‏ وذكر عبدان المروزي أن محمد بن أحيحة بن الجلاح أول من تسمى محمداً في الجاهلية؛ وكأنه تلقى ذلك من قصة تبع لما حاصر المدينة وخرج إليه أحيحة المذكور هو والحبر الذي كان عندهم بيثرب، فأخبره الحبر أن هذا بلد نبي يبعث يسمى محمداً‏.‏ فسمى ابنه محمداً وذكر البلاذري منهم محمد بن غقبة بن أحيحة، فلا أدري‏:‏ أهما واحد نسب مرةً إلى أبيه ومرةً إلى جده، أم هما اثنان‏.‏‏.‏ أقول‏:‏ الصواب أنهما واحد نسب مرةً إلة أبيه، ومرةً إلى جده، كما تقدم بيانه‏.‏

ثم قال ابن حجر‏:‏ ومنهم محمد بن براءالبكري، ذكره ابن حبيب‏.‏ وضبط البلاذري أباه فقال‏:‏ محمد بن بر - بتشديد الراء ليس بعدها ألف - بن طريف بن عتوارة بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة؛ ولهذا نسبوه أيضاً العتواري‏.‏

وغفل ابن دحية فعد فيهم محمد بن عتوارة وهو هو، نسب إلى جده الأعلى‏.‏ ومنهم محمد بن اليحمدي الأزدي، ذكره المفجع البصري في كتاب المنقذ‏.‏ ومحمد بن خولي الهمداني‏.‏ ذكره ابن دريد‏.‏ ومنهم محمد بن حمران بن أبي حمران، واسمه ربيعة بن مالك الجعفي، المعروف بالشويعر، ذكره المرزباني فقال‏:‏ هو أحد من سمي في الجاهلي محمداً، وله قصة مع امرئ القيس‏.‏ ومنهم محمد بن خزاعي علقمة بن حرابة السلمي، من بني ذكوان، ذكره ابن سعد عن علي بن محمد عن سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق قال‏:‏ سمي محمد ين خزاعي طمعاً في النبوة‏.‏

وذكر الطبراني أن أبيرهة الحبشي توجه وأمره أن يغزو بني كنانة فقتلوه، وكان ذلك من أسباب قصة الفيل‏.‏ وذكر محمد بن سعد لأخيه قيس بن خزاعي يذكره من أبيات يقول فيها‏:‏

فذلكم ذو التاج منا محمد *** ورايته في حومة الموت تخفق

ومنهم محمد بن عمر بن مغفل - بضم أوله وسكون المعجمة وكسر الفاء ثم لام - وهو والد هبيب - بموحدتين، مصغر - وهو على شرط المذكورين، فإن لولده صحبةً‏.‏ ومات هو في الجاهلية‏.‏ ومنهم محمد بن الحارث بن حديج بن حويص، ذكره أبو حاتم السجستاني في كتاب المعمرين، وذكر له قصةً مع عمر، وقال‏:‏ إنه أحد من تسمى محمداً في الجاهلية‏.‏ ومنهم محمد الفقيمي، ومحمد الأسيدي ذكرهما ابن سعد ولم ينسبهما بأكثر من ذلك‏.‏‏.‏ فعرف بهذا وجه الرد على الحصر الذي ذكره القاضي عياض‏.‏

وعجب من السهيلي، كيف لم يقف على ما قاله القاضي مع كونه قال قبله‏؟‏‏!‏ وقد تحرر لنا من أسمائهم قدر الذي ذكره القاضي عياض مرتين بل ثلاث مرات، فإنه ذكر في الستة الذين جزم بهم‏:‏ محمد بن مسلمة وهو غلط فإنه ولد بعد ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، ففضل له خمسة‏.‏ وقد خلص لنا خمسة عشر، والله أعلم‏.‏ انتهى ما قال ابن حجر‏.‏

وقال زين الدين العراقي‏:‏ قلت‏:‏ عده - أعني عياضاً - محمد بن مسلمة، فيه نظر من حيث أتنه ولد بعده بعشر سنين، ولكنه صحيح من حيث أنه لم يكن ظهرت النبوة والله أعلم‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد الثامن والعشرون بعد المائتين

قلما عرس حتى هجته *** بالتباشير من الصبح الأول

على أن أبا علي قال‏:‏ إن قلما قد تجيء بمعنى إثبات الشيء القليل، كما في هذا البيت، والكثير أن تكون للنفي الصرف‏.‏ وهذا كلام أبي علي في الإيضاح الشعري قال‏:‏ وأما قول لبيد‏:‏

قلما عرس حتى هجته

فإن قولهم قلما، يستعمل على ضربين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون بمعنى النفي لا يثبت به شيء، والآخر‏:‏ أن يكون خلاف كثر يثبت به شيء قليل‏.‏ فمن الأول قولهم‏:‏ قلما سرت حتى أدخلها، فتنصب الفعل معه بعد حتى، كما تنصب في قولك‏:‏ ما سرت حتى أدخلها؛ ومنه‏:‏ قلما سرت فأدخلها فتنصب معه الفعل بعد الفاء كما تفعل ذلك بالنفي، ومنه قلّ رجل جاءني إلا زيد؛ كما تقول‏:‏ ما جاءني إلا زيد؛ فهذا في هذه المواضع بمنزلة النفي‏.‏

ولو أردت نفي كثر لجاز الرفع في الفعل بعد حتى، كما تقول‏:‏ سرت قليلاً حتى أدخلها‏.‏ ولو أجري هذا الضرب مجرى الأول - على معنى أن القليل لم يعتدّ به لقلته - لكان ذلك قياساً على كلامهم؛ ألا تراهم قالوا‏:‏ ما أدري أأذن وقام، فجعل الفعل غير معتد به‏!‏ والبيت مما قد ثبت فيه التعريس ولم بنفه ألبتّة، يدلك على ذلك قول ذي الرّمّة‏:‏

زار الخيال لميّ هاجعاً لعبت *** به التنائف والمهرية النّجب

معرّساً في بياض الصبح وقعته *** وسائر السير إلا ذاك منجذب

انتهى‏.‏ بيانه‏:‏ أن ذا الرمّةّ أراد بالهاجع المعرس نفسه‏.‏ والهاجع‏:‏ النائم‏.‏ ولعبت به‏:‏ ترامت به بلدة إلى بلدة‏.‏ والمهرية، بالفتح‏:‏ الإبل المنسوبة إلى مهرة، وهي حي باليمن‏.‏ والنّجب‏:‏ جمع نجيب‏:‏ كرام الإبل‏.‏ والتعريس‏:‏ الإقامة في آخر الليل‏.‏ ومعرساً‏:‏ صفة هاجعاً‏.‏ أي‏:‏ زارني خيال ميّ وأنا معرّس نائم‏.‏ وجملة‏:‏ في بياض الصبح وقعته، صفة لقوله‏:‏ معرساً‏.‏ يريد الوقعة التي ينامها عند الصبح؛ لأن كل من سار ليلته فذلك وقت إراحته ونومه‏.‏ ويروى‏:‏ وسائر الليل‏.‏ ومنجذب‏:‏ خبر سائر، أي‏:‏ ماض‏.‏

وقوله‏:‏ إلا ذاك، استثناء للتعريس من السير؛ وهذا وجه الدليل‏.‏ ويروى أيضاً‏:‏ في سواد الليل‏.‏ والتفسير في السير والليل والسواد سواء‏.‏ وهذا الشعر من قصيدة طويلة لذي الرمة مطلعها‏:‏

ما بال عينك منها الماء ينسكب

وهذه القصيدة أول ديوانه‏.‏

واعلم أن أبا علي قد تكلم هنا على أقل وقلّ وقلما، بكلام جيد قد اختصره الشارع المحقق، أحببت أن أنقله هنا برمّته تتميماً للفائدة‏:‏ قال‏:‏ اعلم أنهم قالوا‏:‏ أقل رجل يقول ذلك، وأقل امرأة تقول ذلك، وأقل امرأتين تقولان ذلك؛ محملوا الصفة فيها على المضاف إليه أقل لا على أقل‏.‏ فإن قال قائل‏:‏ ما موضع تقول ذلك وتقولان ذلك‏؟‏ فالقول فيه‏:‏ أن موضعه جرّ على ما عليه استعمالهم، ولا يجوز أن يكون موضعه رفعاً، لأنه لو كان رفعاً لكان ينبغي أن يكون محمولاً على أقل، إما أن يكون وصف وخبراً‏.‏

فإن قلت‏:‏ إذا كان أقل مبتدأ فما خبره‏؟‏ فالقول فيه‏:‏ أنه لا يخلو من أن يكون مضمراً متروك الإظهار والاستعمال، كما كان خبر الاسم بعد لولا كذلك‏.‏ ويكون قد استغني عن الخبر بالصفة الجارية على المضاف أقل إليه، وصار أقل لا خبر له لما فيه من معنى النفي، كما أن قلما في قولهم‏:‏

قلم *** وصال على طول الصدود يدوم

غير مسند إلى فاعل؛ لما فيه من معنى النفي، فكما صار قل غير مسند إلى فاعل، كذلك أقل غير مسند إلى خبر، لأن كل واحد منهما قد جرى مجرى صاحبه؛ ألا ترى أنهم قالوا قل رجل يقول ذلك إلا ويد، كما قالوا‏:‏ ما رجل يقول ذلك إلا زيد، وقالوا‏:‏ أقل رجل يقول ذلك إلا زيد، فأبدلوا زيداً من أقل وأجروه مجرى قل رجل يقول ذلك إلا زيد‏!‏ ألا ترى أنه لم يبدل من رجل المجرور بل أجري مجرى قل رجل فأما صفة الاسم الذي يضاف إليه أقل، فإنه يكون فعل وظرفاً، لأن الظرف كالفعل والفاعل، ألا ترى أنه في صلة الموصول كالفعل‏:‏ في استقلال الموصول به‏!‏ وقال أبو الحسن‏:‏ لو قلت أقل رجل ذي جمّة، ونحو ذلك، لم يحسن‏.‏

قال أبو علي‏:‏ وإنما امتنع هذا، لأن أقل قد أجري مجرى حرف النفي فلم يظهر له خبر، كما أن قل جرى مجراه فلم يسند إلى فاعل‏.‏ فإذا علمت أنه قد أجري مجرى حرف النفي - بما ذكرت، وبأنهم قالوا‏:‏ قل رجل يقول ذلك إلا زيد - كان قولهم‏:‏ أقل رجل يقول ذلك، أقل فيه بمنزلة حرف النفي؛ وحرف النفي ينبغي أن يدخل على كلام تام، والكلام التام الفعل والفاعل وما حكمهما من الظروف، وليس المبتدأ وخبره مما يجري مجرى الفعل والفاعل هنا‏.‏

ألا ترى أن أبا الحسن يقول‏:‏ لو قلت أقل رجل وجهه حسن، لم يحسن‏.‏ فدل ذلك على أنهم جعلوا أقل بمنزلة ما، وما حقها أن تنفي فعل الحال، في الأصل؛ ويؤكد ذلك أنه صفة؛ والصفة ينبغي أن تكون مصاحبة للموصوف، فكما لا تدخل ما في نفي الفعل إلا على فعل وفاعل، كذلك ينبغي أم يكون الوصف الواقع بعد الاسم المضاف إليه أقل فعلاً وفاعلاً، وظرفاً، لأن الظرف كالفعل‏.‏

وإذا كانت كذلك، فلو أوقعت جملة من ابتداء وخبر بعده لم يحسن، لأن ما في الأصل لا تنفيها، إنما تنفي الفعل؛ ولو أوقعت صفة لا معنى للفعل فيها، نحو ذي جمة، وما أشبهها مما لا يشابه الفعل، لم يجز‏.‏

ولو أوقعت الصفة المشابهة للفعل، نحو ضارب وصالح لم يحسن في القياس أيضاً، ألا ترى أن هذا موضع جملة، واسم الفاعل لا يسد مسد الجملة؛ ولذلك لم تستقل الصلة به، واسم الفاعل في صفة الاسم المجرور بربّ أحسن منه في صفة الاسم المضاف إليه أقل‏.‏ لأن ربّ وما انجر به من جملة كلام، ألا ترى أن الفعل الذي يتعلق به مراد، وإن كان قد يترك من اللفظ، كما أن ما يتعلق به الكاف، من قولك‏:‏ الذي كزيد، كذلك‏:‏ فإذا كانت كذلك كانت فضلة، والفضلة لا تمتنع أن توصف بالصفات التي لا تناسب الفعل والتي تناسبه، وليس صفة المضاف إليه أقل كذلك، ألا ترى أن أقل بمنزلة حرف النفي كما كان قل كذلك، وحكم حرف النفي أن يدخل على جملة‏.‏

وجه جواز وصف الاسم المضاف إليه اقل بصالح ونحوه هو أن هذا الضرب قد أجري مجرى الجمل في غير هذا الموضع، ألاترى أن سيبويه قد أجاز حكاية عاقلة لبيبة ونحوها إذا سمي بها، فجعله في ذلك بمنزلة الجمل، حيث كان في حكمها، من حيث كان حديثاً ومحدثاً عنه؛ وقد جرى هذا النحو مجرى الفعل والفاعل أيضاً في الأسماء المسمى بها الفعل، فكذلك فيما ذكرنا‏.‏

والأقيس فيما يجرّ بربّ أن يوصف بفعل وفاعل، لأن أصل رب وإن كان كما ذكرنا، فقد صار عندهم بمنزلة النفي، ألا ترى أنها لا تقع إلا صداراً كما أن النفي كذلك‏!‏‏؟‏ وأن المفرد بعد قل دل على أكثر من واحد، وهذا مما يخنص به النفي ونحوه‏!‏ فإذا كان كذلك، صار ذلك الأمر كالمرفوض، وصار الحكم لهذا الذي عليه الاستعمالالآن‏.‏ وقد صار كانفي بما لزمه بما ذكرنا، كما صار أقل رجل بمنزلة ذلك، فكما أن حكم صفة المضاف إليه أقل أن يكون على ما ذكرنا، كذلك حكم ما انجر برب‏.‏

ومما يدل على أن أقل منزل منزلة النفي، امتناع العوامل الداخلة على المبتدأ من الدخول عليه، امتناعها من الدخول على ما لزمه حرف النفي‏.‏ ومما جرى مجرى أقل رجل، فيما ذكرنا، قولهم‏:‏ خطيئة يوم لا أصيد فيه؛ ألا ترى أن الكلام محمول على على ما أضيف خطيئة إليه، كما كان محمولاً على ما أضيف أقل إليه، ولم يعد على خطيئة مما بعده ذكر، كما لم يعد على أقل شيء مما بعده‏.‏

وقياس خطيئة أن تمتنع العوامل الداخلة على المبتدأ والخبر من الدخول عليها، كما امتنعت من الدخول على أقل، لاتفاقهما فيما ذكرت وفي المعنى، ألا ترى أنه يريد ما يوم لا أصيد فيه إلا الخطيئة، فصار كقولهم أقل من جهة المعنى ومن جهة حمل ما بعدها على ما أضيف إليه من دونها‏.‏ والقياس فيها وفي أقل أن يكون ما جرى بعدهما من الكلام قد سد مسد الخبر، وصار معنى أقل امرأتين تقولان ذلك، ما امرأتان تقولان ذلك، وكذلك خطيئة، فحمل الكلام على المعنى، فلم يحتج إلى إضمار خبر كما لم تحتج إليه في قولك‏:‏ أذاهب أخواك، وما أشبهه‏.‏ انتهى كلام أبي علي، وسقناه برمته لنفاسته‏.‏

وبيت الشاهد من قصيدة طويلة للبيد بن ربيعة الصحابي، عدة أبياتها خمسة وثمانون بيتاً، ولا بد من ذكر أبيات متصلة به ليتضح معناه، وهي‏:‏

ومجود من صبابات الكرى *** عاطف النمرق صدق المبتذل

قال هجدنا فقد طال السرى *** وقدرنا إن خنى الدهر غفل

يتقي الأرض بدف شاسف *** وضلوع تحت صلب قد نحل

قلما عرس حتى هجته *** بالتباشير من الصبح الأول

يلمس الأحلاس في منزله *** بيديه كاليهودي المصل

يتمارى في الذي قلت له *** ولقد يسمع قولي حيهل

فوردنا قبل فراط القط *** إن من وردي تغليس النهل

قوله‏:‏ ومجود من صبابات الخ، الواو واو رب؛ والمجود‏:‏ الذي جاده النعاس وألح عليه حتى أخذه فنام؛ من الجود بالفتح وهو المطر الغزير، يقال‏:‏ أرض مجودة أي‏:‏ مغيثة، وجيدت الأرض‏:‏ إذا مطرت جوداً‏.‏ وقال أعرابي‏:‏ المجود‏:‏ الذي قد جاده العطش أي‏:‏ غلبه، كذا في شرح أبي الحسن الطوسي‏.‏ وهذا لا يناسب قوله‏:‏ صبابات الكرى، فإن الكرى النوم وصبابته بقيته‏.‏

والجيد ما ذكره صاحب القاموس‏:‏ من أن الجواد، كغراب‏:‏ النعاس، وجاده الهوى‏:‏ شاقه وغلبه؛ وبهذا يلتئم بما بعده‏.‏ يريد‏:‏ أنه هب من نومه قبل أن يستكمله، فهو نعسان من بقية النوم‏.‏

وقوله‏:‏ عاطف النمرق، صفة مجود، والإضافة لفظية، يريد‏:‏ عطف نمرقته وثناها فنام‏.‏ والنمرقة، مثلثة النون‏:‏ الوسادة والطنفسة فوق الرحل، وهي المرادة هنا؛ والطنفسة مثلثة الطاء والفاء، وبكسر الطاء وفتح الفاء، وبالعكس‏:‏ البساط‏.‏ وقوله‏:‏ صدق المبتذل، بفتح الصاد أي‏:‏ جلد قوي لا يغير عند ابتذاله نفسه ولا يسقط؛ ولا يجوز أن يقال صدق المبتذل، إلا إذا امتهن ووجد صادق المهنة يوجد عنده ما يحب ويراد‏.‏

وفي القاموس‏:‏ الصدق‏:‏ الصلب المستوي من الرماح والرجال، والكامل من كل شيء؛ وهي صدقة‏.‏ والمبتذل‏:‏ مصدر بمعنى الابتذال، وهو ضد الصيانة، يقال‏:‏ سيف صدق المبتذل أي‏:‏ ماضي الضريبة‏.‏ وقوله‏:‏ قال هجدنا الخ، قال‏:‏ هو متعلق رب‏.‏ والتهجيد من الأضداد‏.‏ يقال‏:‏ هجده إذا نومه، أي‏:‏ دعنا ننام، وهو المراد هنا، وهجده‏:‏ إذا أيقظه‏.‏ والفاء للتعليل‏.‏ والسرى بالضم‏:‏ سير عامة الليل‏.‏ وقوله‏:‏ وقدرنا، أي‏:‏ وقدرنا على ورود الماء؛ وذلك إذا قربوا منه‏.‏

وفي القاموس ةبيننا ليلة قادرة‏:‏ هينة السير لا تعب فيها‏.‏ والخنى، بفتح المعجمة والقصر‏:‏ الآفة والفساد؛ أي‏:‏ إن غفل عنا فساد الدهر فلم يعقنا‏.‏ وقيل‏:‏ قدرنا، أي‏:‏ على التهجيد؛ وقيل‏:‏ على السير‏.‏ وقوله‏:‏ يتقي الأرض الخ، أخبر عن صاحبه النعسان بأنه يتقي الأرض أي‏:‏ يتجافى عنها‏.‏ والدف، بفتح الدال‏:‏ الجنب‏.‏ وروي‏:‏ يتقي الريح‏.‏ والشاسف، بتقديم المعجمة على المهملة‏:‏ اليابس ضمراً وهزالاً، وقد شسف كنصر وضرب وكرم، شسوفاً، ويكسر‏:‏ إذا يبس ونحل جسمه، كمنع وعلم ونصر وكرم، نحولاً‏:‏ ذهب من مرض وسفر‏.‏

وقوله‏:‏ قلما عرّس الخ، ما المتصلة بقلّ كافة لها عن طلب الفاعل، وجاعلة إياها بمنزلة ما النافية في الأغلب، وهنا لإثبات القلة كما تقدم؛ وما تتصل بأفعال ثلاثة فتكفها عن طلب الفاعل، وهي قلما وطالما وكثر ما؛ وينبغي أن تتصل بالأولين كتابة‏.‏ والتعريس‏:‏ النزول في آخر الليل للاستراحة والنوم، ومثله الإعراس‏.‏ وهجته‏:‏ أيقظته من النوم؛ وهاج يهيج يجيء لازماً ومتعدياً، يقال هاج‏:‏ إذا ثار، وهجته‏:‏ إذا أثرته‏.‏ وحتى هنا حرف جر بمعنى إلا الاستثنائية، أي‏:‏ ما عرس إلا أيقظته، أي‏:‏ نام قليلاً ثم أيقظته؛ وأكثر دخولها على المضارع، كقوله‏:‏

ليس العطاء من الفضول سماحة *** حتى تجود وما لديك قليل

وقوله‏:‏ بالتباشير أي‏:‏ بظهورها؛ والتباشير‏:‏ أوائل الصبح، وهو جمع تبشير، ولا يستعمل إلا جمعاً؛ قال في القاموس‏:‏ التباشير البشرى، وأوائل الصبح وكل شيء، وطرائق على الأرض من آثار الرياح، وآثار بجنب الدابة من الدبر، والبواكر من النخل، وألوان النخل أول ما ترطب‏.‏ انتهى‏.‏

ولكونه مشتركاً بين هذه المعاني، بين المراد بقوله‏:‏ من الصبح‏.‏ والأول صفة التباشير، وهو بضم الهمزة وفتح الواو جمع أولى مؤنث الأول، كالكبر جمع كبرى‏.‏ وقد جاء هذا المصراع الثاني في شعر النابغة الجعدي، وهو‏:‏

وشمول قهوة باكرته *** في التباشير من الصبح الأول

والنابغة وإن كان عصري لبيد، إلا أنه أسن منه - كما بيناه في ترجمتها - وقد عيب هذا البيت على النابغة، قال صاحب تهذيب الطبع‏:‏ وأما الأبيات المستكرهة الألفاظ، المتفاوتة النسج، القبيحة العبارة، التي يجب الاحتراز منها كقول النابغة الجعدي‏:‏

وشمول قهوة باكرته *** في التباشير من الصبح الأول

يريد بالتباشير الأول من الصبح‏.‏ وعابه المرزباني أيضاً في كتابه الموشح‏.‏

وقوله‏:‏ يلمس الأحلاس، فاعل يلمس ضمير المجود‏.‏ واللمس‏:‏ الطلب، وفعله من بابي قتل وضرب‏.‏ والأحلاس‏:‏ جمع حلس، بالكسر، وهو كساء رقيق يكون على ظهر البعير تحت رحله‏.‏ أي‏:‏ يطلبها بيديه وهو لا يعقل من غلبة النعاس‏.‏ وقوله‏:‏ كاليهودي المصل، قال الطوسي في شرحه كأنه يهودي يصلي في جانب يسجد على جبينه‏.‏ هذا كلامه‏.‏

واليهودي يسجد على شق وجهه؛ وأصل ذلك أنهم لما نتق الجبل فوقهم، قيل لهم‏:‏ إما أن تسجدوا وإما أن يلقى عليكم؛ فسجدوا على شق واحد مخافة أن يسقط عليهم الجبل؛ فصار عندهم سنة إلى اليوم‏.‏ وقوله‏:‏ يتمارى في الذي قلت له الخ، هذا البيت أورده الشارح في اسم الفعل، وهناك يشرح إن شاء الله تعالى‏.‏ التماري في الشيء والامتراء فيه‏:‏ المجادلة والشك فيه؛ يقال‏:‏ ماريت الرجل أماريه مراء وممارة‏:‏ إذا جادلته؛ والمرية‏:‏ الشك‏.‏ قال الطوسي‏:‏ يقول‏:‏ قال له الصبح، والنجاء، قد أصبحت، ونحو هذا من الكلام‏.‏ وحيهل‏:‏ أي‏:‏ أسرع وأعجل‏.‏

قال السيد المرتضى في أماليه‏:‏ غرر الفوائد، ودرر القلائد‏:‏ قد قال الناس في وصف قلة النوم‏.‏ ومواصلة السرى والإدلاج، وشعث السارين، فأكثروا؛ فمن أحسن ما قيل في ذلك قول لبيد‏.‏ وأنشد هذه الأبيات الخمسة، وأورد لها نظائر جيدة‏.‏

وقوله‏:‏ فوردنا قبل فرّاط القطا الخ، القطا‏:‏ مشهور بالتبكير والسبق إلى الماء‏.‏ وفرّاط القطا‏:‏ أوائلها؛ وهو جمع فارط، يقال‏:‏ فرطت القوم أفرطهم فرطاً، من باب نصر، أي‏:‏ سبقتهم إلى الماء‏.‏

وقوله‏:‏ إن من وردي الخ، أي‏:‏ من عادتي‏.‏ والتغليس‏:‏ السير بغلس، وهو ظلمة آخر الليل؛ يقال‏:‏ غلسنا الماء أي‏:‏ وردناه بغلس‏.‏ والنهل‏:‏ الشربة الأولى؛ والعلل‏:‏ الشربة الثانية‏.‏ قال الطوسي‏:‏ قال أبو الوليد‏:‏ أراد المنهل، ولكنه لم يستقم له البيت‏.‏

وترجمة لبيد تقدمت في الشاهد الثاني والعشرين بعد المائة ومطلع هذه القصيدة‏:‏

إن تقوى ربنا خير نفل *** وبإذن الله ريثي والعجل

أحمد الله فلا ند له *** بيديه الخير ما شاء فعل

من هداه سبل الخير اهتدى *** ناعم البال ومن شاء أضل

قوله‏:‏ خير نفل، هذه رواية الأصمعي، وروى أبو عبيدة‏:‏ خير النفل والنفل‏:‏ الفضل والعطية؛ كذا قال الطوسي‏:‏ واستشهد صاحب الكشاف بهذا البيت في سورة الأنفال على أن النفل بالتحريك الغنيمة‏.‏ وأصله الزيادة، ولهذا يقال هذا نفل أي‏:‏ فضل وزيادة؛ ومنه النافلة في الصلاة‏.‏ والريث مصدر رثت أريث‏:‏ إذا أبطأت‏.‏

قال السيد المرتضى في أماليه‏:‏ وممن قيل أنه على مذهب الجبر من المشهورين، لبيد بن ربيعة العامري واستدل بقوله‏:‏

إن تقوى ربنا خير نفل *** وبإذن الله ريثي والعجل

من هداه سبل الخير اهتدى *** ناعم البال ومن شاء أضل

وإن كان لا طريق إلى نسب الجبر إلى مذهب لبيد إلا هذان البيتان، فليس فيهما دلالة على ذلك‏.‏ وأما قوله‏:‏ وبإذن الله ريثي والعجل، فيحتمل أن يريد بعلمه، كما يتأول عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ، أي‏:‏ بعلمه‏.‏ وإن قيل في هذه الآية أنه أراد‏:‏ بتخليته وتمكينه - وإن كان لا شاهد لذلك في اللغة - أمكن مثله في قول لبيد‏.‏

وأما قوله‏:‏ من هداه سبل الخير الخ، فيحتمل أن يكون مصروفاً إلى بعض الوجوه التي يتأول عليها الضلال والهدى المذكوران في القرآن، مما يليق بالعدل ولا يقتضي الإجبار، اللهم إلا أن يكون مذهب لبيد في الإجبار معروفاً بغير هذه الأبيات، فلا يتأول له هذا التأويل، بل يحمل على مراده، على موافقة المعروف من مذهبه‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد التاسع والعشرون بعد المائتين

وما اغتره الشيب إلا اغترارا

على أن ما بعد إلا مفعول مطلق مؤكد للفعل قبله‏.‏

ووجه الشارح المحقق صحة التفريغ في المفعول المطلق المؤكد‏.‏ وقوله‏:‏ إن ابن يعيش قال‏:‏ أصله وما اغتره اغتراراً إلا الشيب، فقدم وأخر‏.‏ فهذا؛ القول إنما هو لأبي علي الفارسي، وابن يعيش مسبوق به‏.‏ قال ابن هشام في المغني‏:‏ قال الفارسي‏:‏ إن إلا قد توضع في غير موضعها مثل‏:‏ إن نظن إلا ظناً‏.‏ وقوله‏:‏

وما اغتره الشيب إلا اغترارا

لأن الاستثناء المفرغ لا يكون في المفعول المطلق التوكيدي، لعدم الفائدة فيه‏.‏ وأجيب‏:‏ بان المصدر في الآية والبيت نوعي على حذف الصفة، أي‏:‏ إلا ظناً ضعيفاً، وإلا اغتراراً ضعيفاً‏.‏ انتهى‏.‏

وكذا قال الخفاف الإشبيلي في شرح الجمل قال‏:‏ وهذا عندي أن تكون إلا في موضعها، ويكون مما حذف فيه الصفة لفهم المعنى، كأنه قال‏:‏ إن نظن إلا ظناً ضعيفاً،وما اغتره الشيب إلا اغتراراً بيناً‏.‏ وهذا أولى لأنه قد ثبت حذف الصفة ولم يثبت وضع إلا في غير موضعها‏.‏ وهذا جواب ثان، لكن جواب الشارح المحقق أدق‏.‏ وهذا المصراع عجز وصدره‏:‏

أحل له الشيب أثقاله

وأحل أنزل؛ والإحلال‏:‏ الإنزال‏.‏ والأثقال‏:‏ جمع ثقل بفتحتين، وهو متاع المسافر وحشمه‏.‏

والبيت من قصيدة للأعشى ميمون، وقد تقدمت ترجمته في الشاهد الثالث والعشرين من أوائل الكتاب‏.‏ وهذا مطلع القصيدة‏:‏

أأزمعت من آل ليلى ابتكار *** وشطت على ذي هوى أن تزارا

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد الثلاثون بعد المائتين

يطالبني عمي ثمانين ناقة *** وما لي يا عفراء إلا ثمانيا

على أن الفراء يجيز النصب على الاستثناء المفرغ، نظراً إلى المقدر؛ واستدلالاً بهذا البيت‏.‏ فإن المستثنى منه محذوف تقديره‏:‏ ومالي نوق إلا ثمانيا‏.‏ ورده الشارح المحقق بما ذكره‏.‏

أقول‏:‏ هذا البيت من قصيدة نونية طويلة، عدتها ثلاثة وسبعون بيتاً، لعروة بن حزام العذري‏.‏ والبيت قد تحرف على من استشهد به، وروايته هكذا‏:‏

يكلفني عمي ثمانين بكرةً *** وما لي يا عفراء غير ثمان

وروي أيضاً‏:‏

يكلفني عمي ثمانين ناقةً *** وما لي والرحمن غير ثمان

وعلى هذا فالاستثناء على الطريقة المألوفة‏.‏

وهذه القصيدة ثابتة في ديوانه أقل مما ذكرنا، وعدتها على ما فيه ثلاثة وثلاثون بيتاً، وأوردها بالعدد الأول القالي في آخر ذيل أماليه وفي أول نوادره‏.‏ وقد ترجمنا عروة بن حزام مع عفراء العذريين، وذكرنا حكايتهما مفصلة في الشاهد السادس والتسعين بعد المائة‏.‏

والقصيدة غرامية فلا بأس بإيرادها، لانسجامها ورقتها، وأخذها بمجامع القلوب‏.‏ قال القالي في الذيل وفي النوادر‏.‏ قال أبو بكر‏:‏ وقصيدة عروة النونية يختلف الناس في أبيات منها، ويتفقون على بعضها؛ فأول الأبيات المجمع عليها وما يتلوها، مما لا يختلف فيه، أنشدني جميعه أبي رحمه الله، عن أحمد بن عبيد وغيره، وعبد الله بن خلف الدلال عن أبي عبد الله السدوسي، وأبو الحسن بن براء عن الزبير بن بكار؛ وألفاظهم مختلطة بعضها ببعض‏:‏

خليليّ من عليا هلال بن عامر *** بصنعاء عوجا اليوم وانتظراني

ولا تزهدا في الأجر عندي وأجمل *** فإنكما بي اليوم مبتليان

ألم تعلما أن ليس بالمرخ كله *** أخ وصديق صالح فذراني

أفي كل يوم أنت رام بلاده *** بعينين إنساناهما غرقان

ألا فاحملاني بارك الله فيكم *** إلى حاضر الروحاء ثم دعاني

على جسرة الأصلاب ناجية السرى *** تقطّع عرض البيد بالوخدان

ألمّا على عفراء إنكما غد *** لشحط النوى والبين معترفان

فيا واشيي عفرا دعاني ونظرة *** تقرّ بها عيناي ثمّ كلاني

أغرّكما مني قميص لبسته *** جديد وبردا يمنة زهياني

متى ترفعا عني القميص تبيّن *** بي الضر من عفراء يا فتيان

وتعترفا لحماً قليلاً وأعظم *** دقاقاً وقلباً دائم الخفقان

على كبدي من حب عفراء قرحة *** وعيناي من وجد بها تكفان

فعفراء أرجى الناس عندي مودة *** وعفراء عني المعرض المتداني

قال أبو بكر‏:‏ قال بعض البصريين‏:‏ ذكّر المعرض، لأنه أراد‏:‏ وعفراء عني الشخص المعرض‏.‏ وقال الكوفيون‏:‏ ذكره بناء على التشبيه، أي‏:‏ وعفراء عني مثل المعرض، كما تقول العرب‏:‏ عبد الله الشمس منيرة، يريدون مثل الشمس في حال إنارتها‏.‏

فيا ليت كل اثنين بينهما هوىً *** من الناس والأنعام يلتقيان

فيقضي حبيب من حبيب لبانة *** ويرعاهما ربي فلا يريان

ويروى‏:‏ فيسترهما ربي على أن الأصل يسترهما، فسكّن الراء لكثرة الحركات‏.‏

هوى ناقتي خلفي وقدامي الهوى *** وإني وإياها لمختلفان

هواي أمامي ليس خلفي معرّج *** وشوق قلوصي في الغدوّ يمان

هواي عراقي وتثني زمامه *** لبرق إذا لاح النجوم يمان

متى تجمعي شوقي وشوقك تظلعي *** وما لك بالعبء الثقيل يدان

يقول لي الأصحاب إذ يعذلونني *** أشوق عراقي وأنت يمان

وليس يمان للعراق بصاحب *** عسى في صروف الدهر يلتقيان

تحملت من عفراء ما ليس لي به *** ولا للجبال الراسيات يدان

كأن قطاة علّقت بجناحه *** على كبدي من شدة الخفقان

جعلت لعرّاف اليمامة حكمه *** وعرّاف حجر إن هما شفياني

فقالا‏:‏ نعم نشفى من الداء كله *** وقاما مع العوّاد يبتدران

فما تركا من رقية يعلمانه *** ولا سلوة إلا وقد سقياني

ولا شفيا الداء الذي بي كله *** وما ذخرا نصحاً وما ألواني

فقالا‏:‏ شفاك الله والله ما لن *** بما ضمّنت منك الضلوع يدان

فرحت من العراف تسقط عمتي *** عن الرأس ما ألتاثها ببناني

معي صاحبا صدق إذا ملت ميلة *** وكان بدفي نضوتي عدلاني

فيا عمّ يا ذا الغدر لا زلت مبتلىً *** حليفاً لهمّ لازم وهوان

غدرت وكان الغدر منك سجية *** فألزمت قلبي دائم الخفقان

وأورثتني غمّاً وكرباً وحسرةً *** وأورثت عيني دائم الهملان

فلا زلت ذا شوق إلى من هويته *** وقلبك مقسوم بكل مكان

وإني لأهوى الحشر إذ قيل إنني *** وعفراء يوم الحشر ملتقيان

ألا يا غرابي دمنة الدار بيّن *** أبا لهجر من عفراء تنتحبان

فإن كان حقاً ما تقولان فاذهب *** بلحمي إلى وكريكما فكلاني

كلاني أكلاً لم ير الناس مثله *** ولاتهضما جنبيّ وازدرداني

ولا يعلمن الناس ما كان ميتتي *** ولا يأكلن الطير ما تذران

ألا لعن الله الوشاة وقولهم *** فلانة أمست خلّة لفلان

إذا ما جلسنا مجلساً نستلذه *** تواشوا بنا حتى أملّ مكاني

تكنّفني الواشون من كل جانب *** ولو كان واش واحد لكفاني

ولو كان واش باليمامة داره *** أحاذره من شؤمه لأتاني

يكلفني عمي ثمانين بكرة *** وما لي والرحمن غير ثمان

فيا ليت محيانا جميعاً وليتن *** إذا نحن متنا ضمّنا كفنان

ويا ليت أنّا الدهر في غير ريبة *** خليّان نرعى القفر مؤتلفان

فو الله ما حدثت سرك صاحب *** أخاً لي ولا فاهت به الشفتان

سوى أنني قد قلت يوماً لصاحبي *** ضحىً وقلوصانا بنا تخدان

ضحيّا ومسّتنا جنوب ضعيفة *** نسيم لريّاها بنا خفقان

تحملت زفرات الضحى فأطقته *** وما لي بزفرات العشيّ يدان

فيا عمّ لا أسقيت من ذي قرابة *** بلالاً فقد زلّت بك القدمان

ومنيتني عفراء حتى رجوته *** وشاع الذي منّيت كل مكان

فو الله لولا حب عفراء ما التقى *** علي رواقا بيتك الخلقان

خليقان هلهالان لا خير فيهم *** قبيحان يجري فيهما اليرقان

‏؟‏رواقان خفاقان لا خير فيهما إذا هبّت الأرواح يصطفقان

ولم أتبع الأظعان في رونق الضحى *** ورحلي على نهّاضة الخديان

لعفراء إذ في الدهر والناس غرة *** وإذ خلقانا بالصبا يسران

لأدنو من بيضاء خفاقة الحش *** بنية ذي قاذورة شنآن

كأن وشاحيها إذا ما ارتدتهم *** وقامت عناناً مهرة سلسان

يعضّ بأبدان لها ملتقاهم *** ومثناهما رخوان يضطربان

وتحتهما حقفان قد ضربتهم *** قطار من الجوزاء ملتبدان

أعفراء كم من زفرة قد أذقتني *** وحزن ألجّ العين في الهملان

وعينان ما أوفيت نشزاً فتنظر *** بمأقيهما إلا هما تكفان

فهل حاديا عفراء إن خفت فوتهاعليّ إذا ناديت مرعويان

ضروبان للتالي القطوف إذا ونى *** مشيحان من بغضائنا حذران

فما لكما من حاديين رميتم *** بحميّ وطاعون ألا تقفان

وما لكما من حاديين كسيتم *** سرابيل مغلاة من القطران

فويلي على عفراء ويلاً كأنه *** على الكبد والأحشاء حرّ سنان

ألا حبّذا من حب عفراء ملتقى *** نعم وألالا حيث يلتقيان

قال أبو بكر‏:‏ أخبرني أبي عن الطوسيّ قال‏:‏ أراد بقوله‏:‏ ملتقى نعم وألالا، شفتيها، لأن الكلمتين في الشفتين تلتقيان‏.‏ وروي‏:‏

ألا حبّذا من حب عفراء ملتقى *** نعام وبرك حيث يلتقيان

وقيل‏:‏ هما موضعان‏.‏

لو أن أشد الناس وجداً ومثله *** من الجن بعد الإنس يلتقيان

فيشتكيان الوجد ثمّت أشتكي *** لأضعف وجدي فوق ما يجدان

فقد تركتني ما أعي لمحدّث *** حديثاً وإن ناجيته ونجاني

ةوقد تركت عفراء قلبي كأنه *** جناح غراب دائم الخفقان

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد الحادي والثلاثون بعد المائتين

مهامهاً وخروقاً لا أنيس به *** إلا الضوابح والأصداء والبوما

على ان النصب فيه قليل، كقوله‏:‏ لا أحد فيها إلا زيداً‏.‏

وفيه أن البيت من الاستثناء المقطع، فإن الضوابح وما بعده ليست من جنس الأنيس، بخلاف المثال فإنه استثناء متصل‏.‏

والبيت قد أنشده الفرّاء للنصب على الانقطاع، كما نقله السيد المرتضى في أماليه عند الكلام على قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا يموت لمؤمن ثلاثة من الأولاد فتمسّه الناء إلا تحلة القسم قال‏:‏ الاستثناء منقطع، كأنه قال‏:‏ فتمسه الناء، لكن تحلة اليمين، أي‏:‏ لكن ورود النار لا بدّ منه؛ فجرى مجرى قول العرب‏:‏ سار الناس إلا الأثقال، وأنشد الفرّاء‏:‏

مهامهاً وخروقاً لا أنيس بها

وهذا البيت آخر أبيات عدتها أحد عشر بيتاً للأسود بن يعفر؛ وهي في آخر المفضليات‏:‏

قد أصبح الحبل من أسماء مصروم *** بعد ائتلاف وحب كان مكتوما

واستبدلت محلة مني وقد علمت *** أن لن أبيت بوادي الخسف مذموما

عفّ صليب إذا ما جلبة أزمت *** من خير قومك موجوداً ومعدوما

لما رأت أن شيب الرأس شامله *** بعد الشباب وكان الشيب مسؤوما

صدّت وقالت‏:‏ أرى شيباً تفرّعه *** إن الشباب الذي يعلو الجراثيما

كأن ريقتها بعد الكرى اغتبقت *** صرفاً تخيرها الحانون خرطوما

سلافة الدّن مرفوعاً نصائبه *** مقلد الفغو والريحان ملثوما

وقد ثوى نصف حول أشهراً جدد *** بباب أفّان يبتار السلاليما

حتى تناولها صهباء صافية *** يرشو التجار عليها والتراجيما

وسمحة المشي شملال قطعت به *** أرضا يحار بها الهادون ديموما

مهامها وخروقاً لا أنيس بها

قوله‏:‏ قد أصبح الحبل، هو الوصل‏.‏ والمصروم‏:‏ المقطوع‏.‏ وقوله‏:‏ واستبدلت خلة الخ، الخلة‏:‏ الخليل؛ وهو في الأصل مصدر ولهذا يكون للواحد والجمع والمؤنث‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ الخسف‏:‏ الذل؛ وأصله أن تبيت الدابة على غير علف، ثم أطلق على من أقام على ذل‏.‏

وقوله‏:‏ عفّ صليب‏.‏ إلى آخره، الصليب‏:‏ الجلد على المصائب، الصبور على النوائب‏.‏ والجلبة، بضم الجيم وبالموحدة‏:‏ القحط‏.‏ وروي‏:‏ إذا ما أزمة أزمت والأزمة‏:‏ الشدة؛ وأزمت‏:‏ اشتدت، من باب ضرب؛ وأصل الأزم العض بالأسنان يقول‏:‏ أنا صبور على النوائب في الجدب، حيث لا يقوم أحد بحق ينوبه، لشدة الزمان‏.‏ والموجود‏:‏ الحي؛ والمعدوم‏:‏ الميت‏.‏

وقوله‏:‏ وكان الشيب مسؤوماً، قال الضبي‏:‏ مسؤوم‏:‏ مملول، مفعول من سئمته سآمة، إذا مللته‏.‏ وقوله‏:‏ أرى شيباً تفرعه، قال الضبي‏:‏ تفرّعه أي‏:‏ ثار في فروعه، وفرع كل شيء‏:‏ أعلاه‏.‏ والجرثومة، بالضم‏:‏ أصل الشجرة تجمع إليها الرياح التراب‏.‏ يريد‏:‏ أن الشباب يعلو ويرتفع ما لا يقدر عليه الشيوخ؛ وإنما هذا مثل‏.‏ وقوله‏:‏ كأن ريقتها الخ، اغتبقت من الغبوق وهو شرب العشيّ‏.‏ والصرف‏:‏ ما لم يمزج‏.‏ والحانون‏:‏ جمع حان بالمهملة، وهو الخمّار‏.‏ والخرطوم‏:‏ أول ما ينزل من الدّنّ شبّه رائحة فيها وطعم ريقها بعد الكرى بريح الخمر الصرف‏.‏

قال الأصمعي‏:‏ إنما خص الغبوق لأنه أقرب من نومها؛ قال‏:‏ وإنما خص الحانين لأنهم أبصر بالخمر من غيرهم‏.‏ وقوله‏:‏ سلافة الدّنّ الخ قال الضّبّي‏:‏ أراد بالمرفوع نصائبه الإبريق يقلد الريحان‏.‏ ونصائبه‏:‏ قوائمه‏.‏ والغفو، بفتح الفاء وسكون الغين المعجمة‏:‏ ضرب من النبت يكون طيباً، وقد قيل إنه الحنّاء، وهو الفاغية‏.‏

وقال أحمد‏:‏ نصائبه ما انتصب عليه الدن من أسفله، وهو شيء محدد دقيق؛ يجعل له ذلك ليرفع الدّنّ للريح والشمس‏.‏ بقول‏:‏ قلّد الريحان وهذا مثل يقول من طيب رائحته كأنه قلد الريحان والمسك ولذلك ذكر الغفو يريد ريح الريحان‏.‏ ويروى‏:‏ الريحان نصباً وخفضاً‏.‏

وقوله‏:‏ وقد ثوى نصف حول الخ، باب أفان بفتح الهمزة وتشديد الفاء‏:‏ موضع‏.‏ ويبتار‏:‏ يختبر ويمتحن‏.‏ والسلاليم‏:‏ ما يتصل به إلى حاجته‏.‏ وروي‏:‏ يبتاع‏.‏ والمعنى‏:‏ يصونها في مكان مرتفع‏.‏ وأنكر أحمد ما قال الضبي في الإبريق وقال‏:‏ لم يذكر الإبريق بعد، وإنما ثوى نصف حول ليشتري الخمر، أي‏:‏ فهو يطلبها، لم يشترها بعد؛ وكيف يجعلها في الأباريق‏؟‏ وإنما هو يبتار‏:‏ يصعد سلماً بعد سلم، لأنها وضعت على السطوح لبروز الشمس والريح‏.‏

وقوله‏:‏ حتى تناولها الخ، قال الضبي الصهباء من عنب أبيض، والصافية‏:‏ الخالصة‏.‏ والتجار‏:‏ جمع تاجر، وهم تجار الخمر‏.‏ والتراجيم‏:‏ خدم من خدم الخمارين؛ ويقال‏:‏ يريد التراجمة، لأن باعة الخمر عجم يحتاجون إلى من يفهم الناس كلامهم‏.‏

وقوله‏:‏ وسمحة المشي، الواو واو رب‏.‏ والسمحة‏:‏ السهلة‏.‏ والديموم‏:‏ القفر التي لا ماء فيها ولا علم‏.‏ والشملال‏:‏ السريعة‏.‏

وقوله‏:‏ مهامهاً‏.‏‏.‏ الخ، هو بدل من قوله‏:‏ أرضاً، في البيت السابق‏.‏ والمهمه‏:‏ القفر‏.‏ والأنيس‏:‏ من يؤنس به وإليه‏.‏ والضوابح‏:‏ جمع ضابح، بالضاد المعجمة وبالموحدة والحاء المهملة، وهو الثعلب؛ والضباح بالضم‏:‏ صوته‏.‏ والأصداء‏:‏ جمع صدى، وهو ذكر البوم‏.‏ والخروق‏:‏ جمع خرق، بفتح الخاء المعجمة وآخره قاف، وهي الفلاة التي تنخرق فيها الرياح‏.‏

وترجمة الأسود بن يعفر تقدمت في الشاهد الرابع والستين‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد الثاني والثلاثون بعد المائتين وهو من شواهد سيبويه‏:‏

ولا أمر للمعصي إلا مضيعا

هذا عجز‏.‏ وصدره‏:‏

أمرتكم أمري بمنعرج اللوى

لما تقدم قبله‏.‏ وقوله‏:‏ وقال الخليل‏:‏ مضيعاً حال الخ، بهذا يسقط قول الأعلم حيث قال في شرح شواهد سيبويه‏:‏ الشاهد فيه نصب مضيع على الحال من الأمر، وهو حال من النكرة، وفيه ضعف لأن أصل الحال أن يكون للمعرفة انتهى‏.‏

وأقول‏:‏ إن جعل حالاً من الضمير المستقر في قوله‏:‏ للمعصي، فإنه خبر لا النافية، فلا يرد عليه ما ذكر‏.‏

وقال النحاس‏:‏ ويجوز أن يكون حالاً للمضمر؛ التقدير‏:‏ إلا أمراً في حال تضييعه، فهو حال من نكرة‏.‏

أقول‏:‏ هذا التقدير يقتضي أن يكون مضيعاً صفةً لا حالاً‏.‏

وقال الأعلم‏:‏ ويجوز نصبه على الاستثناء، والتقدير‏:‏ إلا أمراً مضيعاً‏.‏ وفيه قبح، لوضع الصفة موضع الموصوف‏.‏

أقول‏:‏ لا قبح، فإن الموصوف كثيراً ما يحذف لقرينة‏.‏

وقال ابن الأنباري في شرح المفضليات‏:‏ الآستثناء منقطع، ولو رفع في غير هذا الموضع لجاز بجعله خبراً للا‏.‏

أقول‏:‏ يجب حينئذ أن يقال ولا أمراً للمعصي بالتنوين إلا؛ هذا مذهب البغداديين‏.‏

وهذا البيت من أبيات للكلحية العريني، وقد شرحناها وذكرنا موردها مفصلاً وترجمناه في الشاهد الحادي والستين‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد الثالث والثلاثون بعد المائتين

رأيت الناس ما حاشا قريش *** فإنا نحن أفضلهم فعالا

على أن الأخفش روى حاشا موصولة بما المصدرية‏.‏

قال ابن عقيل في شرح التسهيل‏:‏ وسيبويه منع من دخول ما على حاشا، قال‏:‏ لو قلت أتوني ما حاشا زيداً، لم يكن كلاماً‏.‏ وأجازه بعضهم على قلة‏.‏‏.‏ وأخطأ العيني حيث زعم أن ما هنا نافية، فإن مراد الشاعر تفضيل قومه على ما عدا قريشاً، لا تفضيل قومه على قريش أيضاً‏.‏

وقياسه على قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أسامة أحب الناس إلي ما حاشا فاطمة‏.‏ في أن ما نافية، كما قال صاحب المغني، يرده أنه صرح أن ما في البيت مصدرية، فإنه قال‏:‏ وتوهم ابن مالك أن ما في الحديث ما المصدرية وحاشا الاستثنائية، فاستدل به على أنه قد يقال قام القوم ما حاشا زيداً؛ كما قال رأيت الناس ما حاشا قريشاً‏.‏‏.‏ البيت انتهى كلام المغني‏.‏

ورأيت‏:‏ من الرؤية القلبية، تطلب مفعولين، والثاني هنا محذوف تقديره دونن والجملة هي المفعول الثاني والفاء زائدة كما قال الدحاميني وزعم‏:‏ العيني، وتبعه السيوطي في شواهد المغني‏:‏ أن رأيت من الرأي، ولهذا اكتفى بمفعول واحد‏.‏ وهذا لا معنى له هنا‏.‏ فتأمل‏.‏

وروي أيضاً‏:‏ فأما الناس ما حاشا قريشاً فالفاء في المصراع الثاني فاء الجواب‏.‏ والفعال‏:‏ بفتح الفاء قال ابن الشجري في أماليه‏:‏ هو كل فعل حسن‏:‏ من حلم، وسخاء، وإصلاح بين الناس، ونحو ذلك‏.‏ فإن كسرت فاؤه صلح لما حسن من الأفعال وما لم يحسن‏.‏

وهذا البيت قال العييني، وتبعه السيوطي‏:‏ إنه للأخطل من قصيدة‏.‏ وقد راجعت ديوانه مرتين ولم أجده فيه، ورأيت فيه أبياتاً على هذا الوزن يهجو بها جريراً ويفتخر بقومه فيها، وليس فيها هذا البيت، وأول تلك الأبيات‏:‏

لقد جاريت يا ابن أبي جرير *** عذوماً ليس ينظرك المطالا

والله أعلم بحقيقة الحال‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد الرابع والثلاثون بعد المائتين وهو من شواهد سيبويه‏:‏

سبحانه ثم سبحاناً نعوذ به *** وقبلنا سبح الجودي والجمد

على أن سبحان الله فيه بمعنى سبحاناً‏.‏ يريد‏:‏ أن سبحان غير علم، لمجيئه نكرةً كما هنا، ومعرفاً بالإضافة وباللام كما بينه في باب العلم‏.‏ ويأتي الكلام عليه إن شاء الله‏.‏

وأنشده سيبويه على أن تنكيره وتنوينه ضرورة، والمعروف فيه أن يضاف ويجعل مفرداً معرفة، كقوله‏:‏

سبحان من علقمة الفاخر

وهذا البيت من أبيات لورقة بن نوفل، قالها لكفار مكة حين رآهم يعذبون بلالاً على إسلامه؛ وهي‏:‏

لقد نصحت لأقوام وقلت لهم‏:‏ *** أنا النذير فلا يغرركم أحد

لا تعبدن إلهاً غير خالقكم *** فإن دعيتم فقولوا‏:‏ دونه حدد

سبحان ذي العرش لا شيء يعادله *** رب البرية فرد واحد صمد

سبحانه ثم سبحاناً نعوذ به *** وقبلنا سبح الجودي والجمد

مسخر كل من تحت السماء له *** لا ينبغي أن يناوي ملكه أحد

لم تغن عن هرمز يوماً خزائنه *** والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا

ولا سليمان إذ دان الشعوب له *** الجن والإنس تجري بينها البرد

لا شيء مما ترى تبقى بشاشته *** يبقى الإله ويودي المال والولد

قوله‏:‏ دونه حدد، بفتح الحاء والدال المهملتين، قال صاحب الصحاح‏:‏ دونه حدد، أي‏:‏ منع‏.‏ وأنشد هذا البيت‏.‏ وهو من الحد بمعنى المنع؛ أي‏:‏ قولوا‏:‏ نحن نمنع أنفسنا من عبادة إله غير الله‏.‏‏.‏ وقوله‏:‏ نعوذ به أي‏:‏ كلما رأينا أحداً يعبد غير الله عذنا برحمته وسبّحناه حتى يعصمنا من الضلال وروى الرياشيّ‏:‏ نعود له بالدال المهملة واللام، أي‏:‏ نعاوده مرة بعد أخرى‏.‏ والجوديّ‏:‏ جبل بالموصل، وقيل بالجزيرة، كذا ورد في التفسير؛ قال أبو عبيد في المعجم‏:‏ روي أن السفينة استقلت بهم في اليوم العاشر من رجب، واستقرت على الجودي يوم عاشوراء من المحرّم‏.‏ وروى سعيد عن قتادة أن البيت بني من خمسة أجبل‏:‏ من طور سيناء، وطور زيتا، ولبنان، والجوديّ، وحراء‏.‏ والجمد بضم الجيم والميم، وتخفف الميم أيضاً بالسكون‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ هو جبل تلقاء أسنمة، قال نصيب‏:‏

وعن شمائلهم أنقاء أسنمة *** وعن يمينهم الأنقاء والجمد

وقال في أسنمة‏:‏ بفتح الألف وسكون السين وضم النون وكسرها معاً وقال عمارة بن عقيل‏:‏ هي أسنمة بضم الهمزة والنون، وقال‏:‏ هي رملة أصفل الدهناء على طريق فلج وأنت مصعد إلى مكة، وهو نقاً محدّد طويل، كأنه سنام انتهى‏.‏

وروي أيضاً‏:‏ وقبل سبّ‏؟‏حه الجوديّ‏.‏‏.‏ الخ بضمّ لام قبل‏.‏‏.‏ وقوله‏:‏ لا ينبغي أن يناوي الخ، أي‏:‏ يعادي؛ وناواه‏:‏ عاداه؛ وأصله الهمز لأنه من النوء وهو النهوض‏.‏ وروي‏:‏ أن يساوى أي‏:‏ لا يعادله‏.‏

وقوله‏:‏ ولا سليمان إذ دان الخ، دان بمعنى ذلّ وأطاع‏.‏ والشعوب‏:‏ جمع شعب، بفتح فسكون، وهو ما تشعّب أي‏:‏ تفرّق من قبائل العرب والعجم؛ وبيّنه هنا بقوله‏:‏ الجن والإنس؛ وضمير بينها للشعوب‏.‏ والبرد بضمتين‏.‏ جمع بريد، وهو الرسول‏.‏ وقوله‏:‏ ويودي المال الخ، يقال أودى الشيء، أي‏:‏ هلك فهو مود‏.‏

ورقة بن نوفل يعدّ من الصحابة‏:‏ وقد ألّف أبو الحسن برهان الدين إبراهيم البقاعيّ الشافعي، تأليفاً في إيمان ورقة بالنبي وصحبته له، صلى الله عليه وسلم، ولقد أجاد في جمعه، وشدد الإنكار على من أنكر صحبته، وجمع فيه الأخبار التي نقلت عن ورقة، رضي الله عنه، بالتصريح بإيمانه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وسروره بنبوته؛ والأخبار الشاهدة له بأنه في الجنة، وما نقله العلماء من الأحاديث في حقه، وما ذكروه في كتبهم المصنفة في أسماء الصحابة؛ وسمي تأليفه‏:‏ بذل النصح والشفقة، للتعريف بصحبة السيد ورقة، وقال في ترجمته‏:‏ هو ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصيّ؛ يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في جدّ جده‏.‏

قال الزبير بن بكار‏:‏ كان ورقة قد كره عبادة الأوثان، وطلب الدين في الآفاق، وقرأ الكتب؛ وكانت خديجة رضي الله عنها تسأله عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول لها‏:‏ ما أراه إلا نبي هذه المة الذي بشر به موسى وعيسى‏.‏

وقال ابن كثير‏:‏ قال ابن إسحاق‏:‏ وكانت خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى ذكرت لورقة - وكان ابن عمها، وكان نصرانياً قد تتبع الكتب وعلم من علم الناس - ما ذكر لها غلامها، يعني ميسرة، من أمر الراهب يعني الذي قال لما نزل محمد صلى الله عليه وسلم تحت شجرة قريبة من الراهب في السفرة التي سافرها لخديجة إلى الشام‏:‏ ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي وما كان ميسرة يرى منه إذ كان الملكان يظلانه؛ فقال ورقة‏:‏ إن كان هذا حقاً يا خديجة، إن محمداً لنبي هذه الأمة، وقد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبي ينتظر، هذا زمانه‏.‏ قال‏:‏ فجعل ورقة يستبطئ الأمر ويقول‏:‏ حتى متى‏؟‏ وقال في ذلك‏:‏

لججت وكنت في الذكرى لجوج *** لهمّ طالما بعث النشيجا

ووصف من خديجة بعد وصف *** فقد طال انتظاري يا خديجا

ببطن المكتين على رجائي *** حديثك إن أرى منه خروجا

بما خبرتنا من قول قسّ *** من الرهبان أكره أن يعوجا

بأن محمداً سيسود يوم *** ويخصم من يكون له حجيجا

ويظهر في البلاد ضياء نور *** يقيم به البرية أن تموجا

فيلقى من يحاربه خسار *** ويلقى من يسالمه فلوجا

فيا ليتني إذا ما كان ذاكم *** شهدت وكنت أولهم ولوجا

أرجّي بالذي كرهوا جميع *** إلى ذي العرش إن سفلوا عروجا

وهل أمر السفاهة غير كفر *** بمن يختار من سمك البروجا

فإن يبقوا وأبق تكن أمور *** يضج الكافرون لها ضجيجا

وإن أهلك فكل فتى سيلقى *** من الأقدار متلفة خروجا

ومات ورقة في فترة الوحي، رضي الله عنه، قبل نزول الفرائض والأحكام‏.‏

وقال الزبير في كتاب نسب قريش‏:‏ ورقة بن نوفل لم يعقب وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تسبوا ورقة، فإني رأيته في ثياب بيض‏.‏ وهو الذي يقول‏:‏

ارفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه *** يوماً فتدركه العواقب قد نما

يجزيك ويثني عليك وإن من *** أثنى عليك بما فعلت كمن جزى

ومرّ ببلال بن رباح رضي الله عنه، وهو يعذب برمضاء مكة فيقول‏:‏ أحد‏؟‏‏!‏ أحد‏!‏ فوقف عليه فقال‏:‏ أحد أحد والله يا بلال‏!‏ ونهاهم عنه فلم ينتهوا، فقال‏:‏ والله لئن قتلتموه لأتخذنّ قبره حنانا‏!‏ وقال‏:‏

لقد نصحت لأقوام وقلت لهم

الأبيات التي شرحناها وفيها بيت الشاهد‏.‏

وقد نسب هذه الأبيات إلى ورقة السهيلي أيضاً، وكذا الحافظ أبو الربيع الكلاعيّ في سيرته‏.‏ وقال السهيلي‏:‏ قوله‏:‏ حنانا، أي‏:‏ لأتخذنّ قبره منسكاً ومترحما؛ والحنان‏:‏ الرحمة‏.‏

وقد وقع بيت الشاهد في كتاب س غير معزوّ إلى واحد، واختلف شرّاح شواهده، فأكثرهم قال‏:‏ إنها لأمية بن أبي الصلت، وقال بعضهم‏:‏ إنها لزيد بن عمرو بن نفيل‏.‏ والصواب ما قدمناه‏.‏

وحاصل ما ذكره البقاعيّ في شأن ورقة بن نوفل‏:‏ أنه ممن وحّد الله في الجاهلية، فخالف قريشاً وسائر العرب في عبادة الأوثان وسائر أنواع الإشراك، وعرف بعقله الصحيح أنهم أخطؤوا دين أبيهم إبراهيم الخليل عليه السلام، ووحّد الله تعالى واجتهد في تطلب الحنيفية دين إبراهيم ليعرف أحب الوجوه إلى الله تعالى في العبادة‏.‏

فلم يكتف بما هداه إليه عقله، بل ضرب في الأرض ليأخذ علمه عن أهل العلم بكتب الله المنزلة من عنده، الضابطة للأديان، فأداه سؤاله أهل الذكر الذين أمر الله بسؤالهم إلى أن اتبع الدين الذي أوجبه الله في ذلك الزمان، وهو الناسخ لشريعة موسى عليه السلام‏:‏ دين النصرانية؛ ولم يتبعهم في التبديل، بل في التوحيد؛ وصار يبحث عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي بشر به موسى وعيسى عليهما السلام‏.‏

فلما أخبرته ابنة عمّه الصدّيقة الكبرى خديجة رضوان الله عليها بما رأت وأخبرت به في شأن النبي صلى الله عليه وسلم من المخايل‏:‏ بإظلال الغمام، ونحوها، ترجى أن يكون هو المبشر به، وقال في ذلك أشعاراً يتشوق فيها غاية التشوق إلى إنجاز الأمر الموعود، لينخلع من النصرانية إلى دينه، لأنه كان قال لزيد بن عمرو بن نفيل - لما قال لهم العلماء‏:‏ إن أحب الدين إلى الله دين هذا المبشر به -‏:‏ أنا أستمر على نصرانيتي إلى أن يأتي هذا النبي‏!‏

فلما حقق الله الأمر وأوقع الإرهاصات‏:‏ بالسلام من الأشجار والأحجار على النبي صلى الله عليه وسلم، وبمناداة إسرافيل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم مع الاستتار منه، وخاف النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فاشتد خوفه، فنقل ذلك إلى ورقة بن نوفل رضي الله عنه، اشتد سروره بذلك وثبته، وشد قلبه وشجعه‏.‏ فلما بدا له الأمر بفراغ نوبة إسرافيل وأتاه جبريل عليه السلام وفعل ما أمره الله به‏:‏ من شق صدره الشريف، وغسل قلبه وإيداعه الحكمة والرحمة وما شاء الله، وتبدّى له جبريل وأنزل عليه بعض القرآن وأخبره به، قفّ شعر ورقة وسبح الله وقدّسه، وعظم سروره بذلك، وشهد أنه أتاه الناموس الأكبر الذي كان يأتي الأنبياء قبله عليهم السلام، وشهد أنه الذي أنزل عليه كلام الله، وشهد أنه نبي هذه الأمة، وتمنى أن يعيش إلى أن يجاهد معه‏.‏ هذا، مع ما له بالنبي عليه الصلاة والسلام وزوجه الصدّيقة خديجة، من عظم القرب، والانتساب الموجب للحب، رضي الله عنه وأرضاه‏!‏ ومن شعره‏:‏

أتبكر أم أنت العشية رائح *** وفي الصدر من إضمارك الحزن قادح

لفرقة قوم لا أحب فراقهم *** كأنك عنهم بعد يومين نازح

وأخبار صدق خبّرت عن محمد *** يخبّرها عنه إذا غاب ناصح

فتاك الذي وجّهت يا خير حرة *** بغور وبالنجدين حيث الصحاصح

إلى سوق بصرى في الركاب التي غدت *** وهنّ من الأحمال قعص دوالح

يخبّرنا عن كل حبر بعلمه *** وللحق أبواب لهن مفاتح

بأن ابن عبد الله أحمد مرسل *** إلى كل من ضمت عليه الأباطح

وظني به أن سوف يبعث صادق *** كما أرسل العبدان‏:‏ هود وصالح

وموسى وإبراهيم حتى يرى له *** بهاء ومنشور من الذكر واضح

ويتبعه حياً لؤيّ بن غالب *** شبابهم والأشيبون الجحاجح

فإن أبق حتى يدرك الناس أمره *** فإني به مستبشر الودّ فارح

وإلا فإني يا خديجة فاعلمي *** عن أرضك في الأرض العريضة سائح

ومن شعره أيضاً‏:‏

وإن يك حقاً يا خديجة فاعلمي *** حديثك إياها فأحمد مرسل

وجبريل يأتيه وميكال فاعلمي *** من الله وحي يشرح الصدر منزل

يفوز به من فاز فيها بتوبة *** ويشقى به العاتي الغرير المضلّل

فريقان منهم فرقة في جنانه *** وأخرى بأجواز الجحيم تغلّل

فسبحان من تهوى الرياح بأمره *** ومن هو في الأيام ما شاء يفعل

ومن عرشه فوق السماوات كله *** وأقضاؤه في خلقه لا تبدّل

ومن شعره أيضاً‏:‏

يا للرجال وصرف الدهر والقدر *** وما لشيء قضاه الله من غير

جاءت خديجة تدعوني لأخبره *** وما لنا بخفي الغيب من خبر

جاءت لتسألني عنه لأخبره *** أمراً أراه سيأتي الناس من أخر

فخبّرتني بأمر قد سمعت به *** فيما مضى ن قديم الدهر والعصر

بأن أحمد يأتيه فيخبره *** جبريل أنك مبعوث إلى البشر

فقلت علّ الذي ترجين ينجزه *** لك الإله فرجّي الخير وانتظري

وأرسليه إلينا كي نسائله *** عن أمره ما يرى في النوم والسهر

فقال حين أتانا منطقاً عجب *** يقفّ منه أعالي الجلد والشعر

إني رأيت أمين الله واجهني *** في صورة أكملت من أعظم الصور

ثم استمر فكاد الخوف يذعرني *** مما يسلّم ما حولي من الشجر

فقلت‏:‏ ظني وما أدري أيصدقني *** أن سوف يبعث يتلو منزل السور

وسوف أبليك إن أعلنت دعوتهم *** من الجهاد بلا منّ ولا كدر

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد الخامس والثلاثون بعد المائتين وهو من شواهد سيبويه‏:‏

سبحان من علقمة الفاخر

هذا عجز، وصدره‏:‏

أقول لمّا جاءني فخره

على أن ترك تنوين سبحان ليس لأنه غير منصرف للعلمية وزيادة الألف والنون، بل لأجل بقائه على صورة المضاف لما غلب استعماله مضافاً والأصل سبحان الله، فحذف المضاف إليه للضرورة‏.‏

وهذا ردّ على سيبويه ومن تبعه، في زعمه أن سبحان علم غبر منصرف‏.‏ ويأتي إن شاء الله تعالى بقية الكلام عليه في باب العلم‏.‏

قال الراغب‏:‏ قوله‏:‏ سبحان من علقمة الفاخر تقديره‏:‏ سبحان علقمة، على التهكم، فزاد فيه من، ردّاً إلى أصله؛ وقيل‏:‏ أراد سبحان الله من أجل علقمة، فحذف المضاف إليه‏.‏

أقول‏:‏ والوجه الأول ضعيف لغة وصناعة‏:‏ أما الأول فلأن العرب لا يستعملونه إلا مضافاً إلى الله، ولم يسمع إضافته إلى غيره؛ وأما صناعة فلأن من لا تزاد في الواجب عند البصريين - وسبحان في البيت للتعجب، ومن داخلة على المتعجب منه؛ والأصل فيه أن يسبح الله تعالى عند رؤية العجيب من صنائعه، ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه‏.‏

قال بعضهم‏:‏ يستلزم التنزيه التعجب من بعد ما نزّه عنه من المنزه فكأنه قيل ماأبعده منه، فقد يقصد به التنزيه أصلاً والتعجب تبعاً، كما في سبحان الذي أسرى بعبده وقد يقصد به التعجب ويجعل تنزيهه تعالى ذريعة له، فيسبح الله عند رؤية العجيب من صنائعه‏.‏ ثم كثر حتى استعمل عند كل تعجب من شيء كما في‏:‏ سبحانك هذا بهتان عظيم‏.‏ والمعنى أعجب من علقمة إذ فاخر عامر بن الطفيل‏.‏

وهذا البيت من قصيدة لأعشى ميمون، قبحه الله تعالى‏؟‏‏!‏ هجا بها علقمة بن علاثة الصحابي رضي الله عنه، ومدح ابن عمه عامراً المذكور، لعنه الله تعالى‏!‏ وغلّبه عليه في الفخر‏.‏

وسبب هذه القصيدة أن علقمة بن علاثة الصحابي نافر ابن عمه عامر بن الطفيل عدو الله - والمنافرة‏:‏ المحاكمة في الحسب والشرف - فهاب حكام العرب أن يحكموا بينهما بشيء - كما تقدم في الشاهد السادس والعشرين، ثم أن الأعشى مدح الأسود العنسي فأعطاه خمسمائة مثقال ذهباً، وخمسمائة حللاً وعنبراً، فخرج فلما مرّ ببلاد بني عامر - وهم قوم علقمة وعامر - خافهم على ما معه، فأتى علقمة بن علاثة فقال له‏:‏ أجرني‏!‏ قال‏:‏ قد أجرتك من الجن والإنس، قال الأعشى‏:‏ ومن الموت، قال‏:‏ لا‏.‏

فأتى عامر بن الطفيل فقال له‏:‏ أجرني‏!‏ قال‏:‏ قد أجرتك من الجن والإنس؛ قال الأعشى‏:‏ ومن الموت‏؟‏ قال عامر‏:‏ ومن الموت أيضاً‏!‏ قال‏:‏ وكيف تجيرني من الموت‏؟‏ قال‏:‏ إن مت في جواري بعثت إلى أهلك الدية‏!‏ قال‏:‏ الآن علمت أنك قد أجرتني‏!‏ فحرّضه عامر على تنفيره على علقمة، فغلّبه عليه بقصائد، فلما سمع نذر ليقتلنه إن ظفر به، فقال الأعشى هذه القصيدة‏.‏ ومطلعها‏:‏

شاقك من قتلة أطلاله *** بالشط فالجزع إلى حاجر

لو أسندت ميتاً إلى نحره *** عاش ولم ينقل إلى قابر

حتى يقول الناس مما رأو *** يا عجباً للميت الناشر

دعها فقد أعذرت في ذكره *** واذكر خنى علقمة الخائر

أسفهاً توعدني جاهل *** لست على الأعداء بالقادر

يحلف بالله‏:‏ لئن جاءه *** عنّي نباً من سامع خابر

ليجعلني ضحكة بعده *** خدعت يا علقم من ناذر

إلى أن قال‏:‏

إن الذي فيه تماريتم *** بيّن للسامع والناظر

ما جعل الجدّ الظنون الذي *** جنّب صوب اللجب الماطر

مثل الفراتي إذا ما جرى *** يقذف بالبوصيّ والماهر

أقول لمّا جاءني فخره *** سبحان من علقمة الفاخر

علقم لا تسفه ولا تجعلن *** عرضك للوارد والصادر

وأول الحكم على وجهه *** ليس قضائي بالهوى الجائر

حكّمتموه فقضى بينكم *** أبلج مثل القمر الباهر

لا يأخذ الرشوة في حكمه *** ولا يبالي غبن الخاسر

سدت بني الأحوص لا تعدهم *** وعامر ساد بني عامر

قد قلت شعري فمضى فيكم *** فاعترف المنفور للنافر

وهي قصيدة طويلة‏:‏ ومنها‏:‏

ولست بالأكثر منه حصى *** وإنما العزة للكاثر

وسيأتي شرحه مع أبيات في باب أفعل التفضيل‏.‏

وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن رواية هذه القصيدة، ولهذا لم أذكرها كلها‏.‏

قال السيوطي في شرح شواهد المغني‏.‏ وعلقمة بن علاثة صحابيّ، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو شيخ فأسلم وبايع، وروى حديثاً واحداً‏.‏ أخرج ابن منده وابن عساكر من طريق الأعمش عن أبي صالح قال‏:‏ حدثني علقمة بن علاثة قال‏:‏ أكلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤوساً‏.‏ واستعمله عمر بن الخطاب على حوران، فمات بها‏.‏

وأخرج أبو نعيم والخطيب وابن عساكر عن محمد بن مسلمة قال‏:‏ كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده حسان، فقال‏:‏ يا حسان أنشدنا من شعر الجاهلية ما عفا الله لنا فيه؛ فأنشده حسان قصيدة الأعشى في علقمة بن علاثة‏:‏

علقم ما أنت إلى عامر *** الناقض الأوتار والواتر

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا حسان لا تنشدني مثل هذا بعد اليوم‏!‏ فقال حسان‏:‏ يا رسول الله، ما يمنعني من رجل مشرك هو عند قيصر أن أذكر هجاء له فقال‏:‏ يا حسان إني ذكرت عند قيصر وعنده أبو سفيان بن حرب وعلقمة بن علاثة، فأما أبو سفيان فلم يترك فيّ، وأما علقمة فحسن القول، وإنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس‏.‏ فقال حسان‏:‏ يا رسول الله، من نالتك يده وجب علينا شكره‏!‏ وقال وكيع، في الغرر، عن الزهري‏:‏ قال‏:‏ رخّص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأشعار كلها، إلا هاتين الكلمتين‏:‏ التي قال أمية بن أبي الصلت في أهل بدر‏:‏

ماذا ببدر فالعقن *** قل من مرازبة جحاجح

والتي قال الأعشى في علقمة بن علاثة‏:‏

شاقك من قتلة أطلالها‏.‏

انتهى ما رواه السيوطي‏.‏

قال شارح ديوان الأعشى محمد بن حبيب وكذلك ابن قتيبة في كتاب الشعراء‏:‏ إن علقمة بن علاثة لما نذر بدم الأعشى جعل له على كل طريق رصداً، فاتفق أن الأعشى خرج يريد وجهاً ومعه دليل، فأخطأ به الطريق فألقاه على ديار بني عامر بن صعصعة فأخذه رهط علقمة بن علاثة فأتوه به، فقال له علقمة‏:‏ الحمد لله الذي أمكنني منك‏!‏ فقال الأعشى‏:‏

أعلقم قد صيّرتني الأمور *** إليك وما أنت لي منقص

فهب لي ذنوبي فدتك النفوس *** ولا زلت تنمو ولا تنقص

فقال قوم علقمة‏:‏ يا علقمة‏:‏ اقتله وأرحنا منه والعرب من شرّ لسانه‏!‏ فقال علقمة‏:‏ إذاّ تطلبوا بدمه، ولا يغسل عني ما قاله، ولا يعرف فضلي عند القدرة‏!‏ فأمر به فحلّ وثاقه وألقى عليه حلة، وحمله على ناقة وأحسن عطاءه وقال‏:‏ انج حيث شئت؛ وأخرج معه من بني كلاب من يبلغه مأمنه، فقال الأعشى بعد ذلك‏:‏

علقم يا خير بني عامر *** للضيف والصاحب والزائر

والضاحك السن على همّة *** والغافر العثرة للعاثر

وترجمة علقمة بن علاثة تقدمت في الشاهد السادس والعشرين، وترجمة عامر بن الطفيل في الشاهد الثامن والستين بعد المائة‏.‏

وقتلة‏:‏ اسم امرأة‏.‏ والشط‏:‏ جانب النهر، وموضع‏.‏ والخنى‏:‏ الفحش‏.‏ والخاتر‏:‏ الغادر‏.‏ وقوله‏:‏ ما جعل الجدّ الخ، ما نافية‏.‏ والجدّ بضم الجيم‏:‏ البئر القديمة التي لا يدرى أفيها ماء أم لا‏.‏ والصوب‏:‏ المطر‏.‏ واللجب، بفتح اللام وكسر الجيم‏:‏ السحاب والفراتي، يعني الفرات المعروف، والماء المعروف‏.‏ والبوصيّ، بضم الموحدة‏:‏ ضرب من السفن‏.‏ والماهر السابح‏.‏ يريد أن البئر التي بها ماء ليست كالبحر الذي تجري فيه السفن وغيرها‏.‏ وجملة سبحان من علقمة الفاخر مقول القول‏.‏ والفاخر، بالخاء المعجمة‏.‏ والمنفور‏:‏ المفضول‏.‏ والنافر‏:‏ الفاضل‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد السادس والثلاثون بعد المائتين

وما أحاشي من الأقوام من أحد

هذا عجز، وصدره‏:‏

ولا أرى فاعلاً في الناس يشبهه

على أن المبرد استدل به على فعلية حاشى، بتصرفه‏.‏

قال ابن الأنباري، في مسائل الخلاف‏:‏ ذهب الكوفيون إلى أن حاشا في الاستثناء فعل ماض، وذهب بعضهم إلى أنه استعمل استعمال الأدوات؛ وذهب البصريون إلى انه حرف جر، وذهب أبو العباس المبرد إلى أنه يكون فعلاً ويكون حرفاً‏.‏ أما الكوفيون فاحتجوا على فعليته بالتصرف كقول النابغة‏:‏

وما أحاشي من الأقوام من أحد‏.‏‏.‏‏.‏

وبأن لام الخفض تتعلق به، قال تعالى‏:‏ ‏{‏حاش لله وحرف الجر إنما يتعلق بالفعل لا بالحرف؛ وبأن الحذف يلحقه، فإنهم قالوا في حاشا لله‏:‏ حاش لله‏.‏ واستدل البصريون على حرفيته بأنّ لا يقال ما حاشا زيداً، كما يقال ما خلا زيداً وما عدا عمراً، وبأن نون الوقاية لا تلحقه فلا يقال حاشاني، ولو كان فعلاً لقيل‏.‏ وأجابوا عن قول الكوفيين بالتصرف، بأن أحاشي مأخوذ من لفظ حائى وليس متصرفاً منه، كما يقال‏:‏ بسمل، وهلل، وحمدل، وسبحل، وحوقل‏:‏ إذا قال بسم الله، ولا إله إلا الله، والحمد لله، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ وكذلك يقال‏:‏ لبّي، إذا قال لبيك‏.‏ فكما بنيت هذه الأفعال من هذه الألفاظ وإن كانت لا تتصرف، فكذلك ها هنا‏.‏

وقولهم‏:‏ إن لام الجر تتعلق به، قلنا‏:‏ لا نسلّم، فإنها زائدة لا تتعلق بشيء‏.‏ وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حاش لله فليس لهم فيه حجة، فإن حاش فيه ليست للإستثناء وإنما هي للتنزيه‏.‏

وقولهم‏:‏ لحقه الحذف، قلنا‏:‏ جوابه من وجهين‏:‏ أحدهما أن الأصل حاش لله والألف في حاشا حدثت زيادتها، والثاني أن الحرف يدخله الحذف كثيراً، كربّ وإن، يلحقهما التخفيف، وكقولك‏:‏ سَوْ أفعل في سوف أفعل؛ ويقال‏:‏ فيه سف أفعل أيضاً كلامه مختصراً‏.‏

وبهذا وبكلام الشارح المحقق يرد على ابن هشام، في المغني، قوله أن أحد أوجه حاشا أن تكون فعلاً متعدياً متصرفاً، تقول‏:‏ حاشيته بمعنى استثنيته؛ ودليل تصرّفه قوله‏:‏

ولا أحاشي من الأقوام من أحد

وهذا البيت من قصيدة طويلة للنابغة الذبياني مدح بها النعمان بن المنذر ملك الحيرة؛ وقد تقدم شرح أبيات منها في الشاهد التاسع والثمانين بعد المائة‏.‏

وقبله‏:‏

فتلك تبلغني النعمان إن له *** فضلاً على الناس في الأدنى وفي البعد

ولا أرى فاعلاً في الناس يشبهه *** ولا أحاشي من الأقوام من أحد

إلا سليمان إذ قال الإله له *** قم في البرية فاحددها عن الفند

وقوله‏:‏ فتلك تبلغني، الإشارة إلى الناقة التي وصفها في أبيات شرحت هناك‏.‏ وقوله‏:‏ ولا أحاشي، أي‏:‏ لا أستثني أحداً ممن يفعل الخير فأقول حاشا فلان‏.‏ ومن زائدة، وأحد مفعول‏.‏‏.‏‏.‏ وقوله‏:‏ إلا سليمان، هذا استثناء من قوله‏:‏ من أحد، وبدل من موضع أحد؛ والمراد به سليمان بن داود عليهما السلام؛ وإذ تعليلية‏.‏ وقوله‏:‏ إذ قال الإله له الخ، يريد لكونه نبياً، إذ الخطاب إنما يكون مع الأنبياء؛ إنما خص بالذكر من الأنبياء سليمان لأنه كان له الملك مع النبوة‏.‏ يريد‏:‏ لا يشبهه أحد ممن أوتي الملك، إلا سليمان النبي‏.‏

وقوله‏:‏ فاحددها، أي‏:‏ امنع البرية؛ والحدّ‏:‏ المنع؛ ورجل محدود‏:‏ ممنوع؛ والحداد‏:‏ السجان، لأنه يمنع‏.‏ والفند، بفتح الفاء والنون‏:‏ خطأ الرأي والصنيع، وقال ابن الأعرابي‏:‏ الفند‏:‏ الظلم‏.‏

وترجمة النابغة تقدمت في الشاهد الرابع بعد المائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد السابع والثلاثين بعد المائتين وهو من شواهد س‏:‏

لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت

هذا صدر البيت، وأنشده بتمامه في باب الظروف، وتمامه‏:‏

حمامة في غصون ذات وقال

على أن غير إذا أضيفت إلى إن وأن المشددة، فلا خلاف في جواز بنائها على الفتح‏.‏‏.‏ فإن قلت‏:‏ أن حرف، والحرف لا يضاف إليه‏!‏ قلت‏:‏ قال ابن هشام في حواشي الألفية‏:‏ إنهم جعلوا ما يلاقي المضاف من المضاف إليه كأنه المضاف إليه؛ ونظيره تعليل الزمخشري البناء في يوم لا تملك بإضافة يوم إلى لا والحروف مبنية، مع علمنا بأن أحداً لا يتخيل الإضافة إلى الحرف‏.‏ وجعل بعضهم المضاف إليه مجموع أن نطقت حمامة أي‏:‏ جملتها‏.‏

قال الدماميني في شرح المغني المزج‏:‏ سأل بعض الناس كيف أضيفت غير لمبني، مع ان هذا المضاف إليه في تقدير معرب، وهو النطق، فلم تضف في الحقيقة إلا لمعرب‏؟‏ فقلت‏:‏ المعرب إنما هو الاسم الذي يؤول به، وأما الحرف المصدري وصلته فمبني، ألا تراهم يقولون‏:‏ المجموع في موضع كذا‏.‏‏.‏‏.‏ إلى آخر ما بيّنه‏.‏ وظاهره جواز بناء غير عند إضافتها إلى أحد اللفظين من المبنيات لا غير‏.‏ وقد عمّم سيبويه وغيره في إضافتها إلى كل مبني؛ قال ابن هشام في المغني، في غير أنه يجوز بناؤها على الفتح إذا أضيفت لمبني كقوله‏:‏

لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت

وقوله‏:‏

لذ بقيس حين يأبى غيره *** تلفه بحراً مفيضاً خيره

وذلك في البيت الأول أقوى، لأنه انضم إلى الإبهام والإضافة لمبني تضمن غير معنى إلا، وقال في الأمور التي يكتسبها الاسم بالإضافة، من الباب الرابع‏:‏ إن البناء يكون في ثلاثة أبواب‏:‏ أحدها‏:‏ أن يكون المضاف مبهماً كغير، ومثل، ودون‏.‏ الثاني‏:‏ ان يكون المضاف زماناً مبهماً والمضاف إليه إذ، نحو ومن خزي يومئذ ‏.‏ الثالث‏:‏ أن يكون المضاف زماناً مبهماً والمضاف إليه فعل مبني، سواء كان البناء أصلياً كقوله‏:‏

على حين عاتبت المشيب وعارضاً كقوله‏:‏

على حين يستصبين

وكذلك يجوز البناء إذا كان المضاف إليه فعلاً معرب وجملة إسمية على الصحيح‏.‏

وقد بين الشارح المحقق علة البناء، في الظروف، وفي الإضافة‏.‏

وقد ذهب الكوفيون إلى جواز بناء غير في كل موضع يحسن فيه إلا سواء أضيفت إلى متمكن وغير متمكن‏.‏ وقد بسط الكلام ابن الأنباري؛ في مسائل الخلاف، على مذهبهم، وذكر ما ردّ به البصريون عليهم مفصلاً؛ ومن أحب الاطلاع عليه فلينظر هناك‏.‏

وهذا البيت من قصيدة لأبي قيس بن الأسلت‏.‏ وقبله‏:‏

ثم ارعويت وقد طال الوقوف بن *** فيها قصرت إلى وجناء شملال

تعطيك مشياً وإرقالاً ودأدأة *** إذا تسربلت الآكام بالآل

تردي الإكام إذا صرّت جنادبه *** منها بصلب وقاح البطن عمّال

لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت

قوله‏:‏ ارعويت، أي‏:‏ رجعت‏.‏ والوجناء‏:‏ الناقة الشديدة، وقيل العظيمة الوجنتين‏.‏ والشملال، بالكسر‏:‏ الخفيفة السريعة‏.‏ وضمير فيها للدار‏.‏ يريد‏:‏ أنه طال وقوفه على دار حبيبته وليس فيها أحد‏.‏ والإرقال‏:‏ مصدر أرقلت الناقة‏:‏ إذا أسرعت، وكذلك الدأدأة مصدر دأدأت بمعناه، وهما نوع من العدو‏.‏

وقوله‏:‏ إذا تسربلت الخ، الظرف متعلق بقوله تعطيك، يريد‏:‏ وقت اشتداد الحر في الظهيرة، لأن الآكام - وهي الجبال - إنما تتسربل بالآل - وهو السراب - عند الظهيرة‏.‏ والسربال‏:‏ القميص؛ وتسربل أي‏:‏ لبس سربالاً؛ والآكام فاعله، وهو جمع أكم بضمتين، كأعناق جمع عنق، وهو جمع إكام بالكسر، مثل كتب جمع كتاب؛ والإكام أيضاً جمع أكم بفتحتين، مثل جبال جمع جبل، وأكم أيضاً جمع أكمة بفتحات‏.‏ يقول‏:‏ إنها نشيطة في العدو وقت الهاجرة‏.‏

وقوله‏:‏ تردي الإكام الخ، من ردى الفرس بالفتح يردي ردياً وردياناً‏:‏ إذا رجم الأرض رجماً، بين العدو والمشي الشديد‏.‏ والإكام، بالكسر‏:‏ جمع أكم بفتحتين كما تقدم، والأكمة‏:‏ الجبل الصغير‏.‏ وإذا متعلق بقوله تردي‏.‏ وصرّت‏:‏ صوتت‏.‏ والجنادب‏:‏ جمع جندب، وهو نوع من الجراد يصوّت عند اشتداد الهاجرة‏.‏

وقوله‏:‏ بصلب، أي‏:‏ بخفّ صلب سديد‏.‏ والوقاح، بالفتح، هو الصلب، ومنه الوقاحة لصلابة الوجه‏.‏ يريد‏:‏ ان خفها ظهره وبطنه صلب‏.‏ وعمال، بالفتح مبالغة عامل، وهو المطبوع على العمل‏.‏

وقوله‏:‏ لم يمنع الشرب منه‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، ضمير منها راجع للوجناء، والشرب مفعول يمنع، وغير فاعله لكنه بني على الفتح جوازاً لإضافته إلى مبني‏.‏ وروي الرفع أيضاً‏.‏ ونطقت‏:‏ صوتت وصدحت؛ عبر عنه بالنطق مجازاً‏.‏ وفيّ‏:‏ بمعنى على‏.‏ وذات بالجر صفة لغصون، لا بالرفع صفة لحمامة كما وهم ابن المستوفى في شرح شواهد المفصل‏.‏ والأوقال‏:‏ جمع وقل، بفتح الواو وسكون القاف، قال الدينوري في كتاب النبات‏:‏ قال أبو عبد الله الزبير بن بكار‏:‏ المقل إذا كان رطباً لم يدرك فهو البهش، فإذا يبس فهو الوقل؛ والدوم‏:‏ شجر المقل‏.‏ وأنشد هذا البيت‏.‏

وبهذا التفسير قد أصاب المحزّ وطبّق المفصل، وبه يضمحل التعسف الذي ارتكبه شراح الشواهد‏.‏ قال ابن السيرافي في شرح شواهد إصلاح المنطق‏:‏ يريد لم يمنعها أن تشرب إلا أنها صوتت حمامة فنفرت‏.‏ يريد‏:‏ أنها حديدة النفس، يخامرها فزع وذعر، لحدة نفسها‏.‏ وذلك محمود فيها‏.‏

وأبو قيس بن الأسلت قال صاحب الأغاني‏:‏ لم يقع إليّ اسمه‏.‏ والأسلت لقب أبيه واسمه عامر بن جشم بن وائل بن زيد بن قيس بن عمارة بن مرة بن مالك بن الأوس‏.‏‏.‏وهو شاعر من شعراء الجاهلية‏.‏ وكانت الأوس قد أسندت إليه حربها يوم بعاث، وجعلته رئيساً عليها فكفى وساد‏.‏ وأسلم عقبة بن أبي قيس، واستشهد يوم القادسية‏.‏ وكان يزيد بن مرداس السلمي قتل قيس بن أبي قيس في بعض حروبهم، فطلبه بثأره هارون بن النعمان بن الأسلت، حتى تمكّن من يزيد بن مرداس فقتله بقيس - وهو ابن عمه - ولقيس يقول أبوه، أبو قيس بن الأسلت‏:‏

أقيس إن هلكت وانت حيّ *** فلا تعدم مواصلة الفقير

وقال هشام بن الكلبي‏:‏ كانت الأوس قد أسندوا أمرهم في يوم بعاث إلى أبي قيس بن الأسلت، فقام في حربهم وآثرها على كل أمر، حتى شحب وتغير، ولبث أشهراً لا يقرب امرأته؛ ثم إنه جاء ليلة فدقّ على امرأته ففتحت له، فأهوى إليها بيده فدفعته وأنكرته، فقال‏:‏ أنا أبو قيس‏!‏ فقالت‏:‏ والله ما عرفتك حتى تكلمت‏!‏ فقال في ذلك أبو قيس القصيدة التي أولها‏:‏

قالت ولم تقصد لقيل الخنى *** مهلاً فقد أبلغت أسماعي

استنكرت لوناً له شاحب *** والحرب غول ذات أوجاع

من يذق الحرب يجد طعمه *** مرّاً وتتركه بجعجاع

قد حصّت البيضة رأسي فم *** أطعم نوماً غير تهجاع

أسعى على جلّ بني مالك *** كل امرئ في شأنه ساعي

لا نألم القتل ونجزي به ال *** أعداء كيل الصاع بالصاع

كلام الأغاني‏.‏

وقال ابن حجر في الإصابة‏:‏ أبو قيس بن الأسلت اسمه صيفيّ، وقيل‏:‏ الحارث، وقيل‏:‏ عبد الله، وقيل‏:‏ صرمة، وقيل غير ذلك‏.‏‏.‏ واختلف في إسلامه‏.‏ فقال أبو عبيد القاسم بن سلام في ترجمة ولده عقبة بن أبي قيس‏:‏ كان أبو قيس يحض قومه على الإسلام، وذلك بعد أن اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم وسمع كلامه‏.‏

وكان يتألّه في الجاهلية ويدعي الحنيفية، وكان يقول‏:‏ ليس أحد على دين إبراهيم إلا أنا وزيد بن عمرو بن نفيل‏.‏ وكان يذكر صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يهاجر إلى يثرب‏.‏ وشهد وقعة بعاث، وهو يوم للأوس على الخزرج، وكانت قبل الهجرة بخمس سنين‏.‏

وزعموا أنه لما حضره الموت أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم يقول له‏:‏ قل لا إله إلا الله أشفع لك بها فسمع يقول ذلك؛ وقيل‏:‏ قال‏:‏ والله لا أسلم إلى سنة فمات قبل الحول، على رأس عشرة أشهر من الهجرة، بشهرين‏.‏ وقد جاء عن ابن إسحق‏:‏ أنه هرب إلى مكة فأقام بها مع قريش إلى عام الفتح باختصار‏.‏

وعلى هذا فكان ينبغي لابن حجر ألاّ يذكره في القسم الأول، وهم الذين جزم بصحبتهم‏.‏

روى صاحب الأغاني بسنده إلى المبرد قال‏:‏ قال لي صالح بن حسان‏:‏ أنشدني بيتاً خفراً في امرأة خفرة شريفة؛ فقلنا‏:‏ قول حاتم‏:‏

يضيء لها البيت الظليل خصاصه *** إذا هي يوماً حاولت أن تبسما

فقال‏:‏ هذه من الأصنام، أريد أحسن من هذا‏!‏ قلنا‏:‏ قول الأعشى‏:‏

كأن مشيتها من بيت جارته *** مرّ السحابة‏:‏ لا ريث ولا عجل

فقال‏:‏ هذه خرّاجة ولاجة‏!‏ قلنا‏:‏ بيت ذي الرمة‏:‏

تنوء بأخراها فلأياً قيامه *** وتمشي الهوينى من قريب فتبهر

فقال‏:‏ ليس هذا مما أردت؛ إنما وصف هذه بالسمن وثقل البدن‏!‏ فقلنا‏:‏ ما عندنا شيء‏.‏ فقال‏:‏ قول أبي قيس بن الأسلت‏:‏

ويكرمها جاراتها فيزرنه *** وتعتلّ عن إتيانهن فتعذر

وليس لها أن تستهين بجارة *** ولكنها منهنّ تحيا وتخفر

ثم قال‏:‏ أنشدوني أحسن بيت وصفت به الثريا‏:‏ قلنا‏:‏ بيت ابن الزبير الأسديّ‏:‏

وقد لاح في الغور الثريا كأنم *** به راية بيضاء تخفق للطعن

قال‏:‏ أريد أحسن من هذا؛ قلنا‏:‏ بيت امرئ القيس‏:‏

إذا ما الثريا في السماء تعرّضت *** تعرّض أثناء الوشاح المفصّل

قال‏:‏ أريد أحسن من هذا؛ قلنا‏:‏ بين ابن الطثرية‏:‏

إذا ما الثريا في السماء كأنه *** جمان وهي من سلكه فتسرّعا

قال‏:‏ أريد أحسن من هذا؛ قلنا‏:‏ ما عندنا شيء؛ قال‏:‏ قول أبي قيس بن الأسلت‏:‏

وقد لاح في الصبح الثريا لمن رأى *** كعنقود ملاّحيّة حين نوّرا

قال‏:‏ فحكم له عليهم في هذين المعنيين بالتقدم‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا البيت الأخير من أبيات علم المعاني، ولأجله أوردت هذه الحكاية‏.‏

تتمة‏:‏

البيت الشاهد، كونه لابن الأسلت هو ما ذكره أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات، وهو من معرفة الأشعار أديب غير منازع فيها‏.‏ وقد نسبه الزمخشري في الأجاجي إلى الشماخ، وقد راجعت ديوانه فلم أجده فيه‏.‏

ونسبه بعض شراح شواهد كتاب سيبويه لرجل من كنانة‏.‏ ونسبه بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل تبعاً للزمخشري في شرح أبيات الكتاب لأبي قيس بن رفاعة الأنصاري‏.‏

أقول‏:‏ لم يوجد في كتب الصحابة من يقال له أبو قيس بن رفاعة، وإنما الموجود قيس بن رفاعة وهو واحد واثنان‏.‏ قال ابن حجر في الإصابة في القسم الأول‏:‏ قيس بن رفاعة الواقفي، من بني واقف بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس، الأنصاري‏.‏ ذكره المرزباني في معجم الشعراء، وقال‏:‏ أسلم، وكان أعور، وأنشد له‏:‏

أنا النذير لكم مني مجاهرة *** كي لا نلام على نهي وإنذار

من يصل ناري بلا ذنب ولا ترة *** يصل بنار كريم غير غدار

وصاحب الوتر ليس الدهر يدركه *** عندي وإني لدرّاك لأوتاري

ثم قال ابن حجر‏:‏ قيس بن رفاعة بن الهميس بن عامر بن عانس بن نمير الأنصاري ذكره العدوي وقال‏:‏ كان شاعراً، وأدرك الإسلام فأسلم‏.‏

وذكره ابن الأثير فقال‏:‏ كان من شعراء العرب‏.‏ قلت‏:‏ يحتملأن يكون الذي قبله‏.‏ انتهى‏.‏

قلت‏:‏ كيف يكون هو الذي قبله مع اختلاف النسبين‏؟‏‏؟‏‏!‏ والظاهر أنهما اثنان‏.‏ والله أعلم‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد الثامن والثلاثون بعد المائتين

غير أني قد أستعين على اله *** مّ إذا خفّ بالثويّ النجاء

على أن غيراً يجوز أن تكون مبنية على الفتح إضافتها إلى أن المشددة، ويجوز أن تكون منصوبة لكونها استثناء منقطعاً‏.‏

وهذا البيت من قصيدة الحارث بن حلّزة اليشكري، وهي سابعة المعلّقات السبعة وأولها‏:‏

آذنتنا ببينها أسماء *** ربّ ثاو يملّ منه الثواء

آذنتنا ببينها ثم ولّت *** ليت شعري‏!‏ متى يكون اللقاء

بعد عهد لها ببرقة شمّ *** ء فأدنى ديارها الخلصاء

لا أرى من عهدت فيها فأبكى الي *** وم دلهاً وما يردّ البكاء‏!‏

وبعينيك أوقدت هند الن *** ر أصيلاً تلوي بها العلياء

أوقدتها بين العقيق وشخصي *** ن بعود كما يلوح الضياء

فتنوّرت نارها من بعيد *** بخزاز هيهات منك الصلاء

غير أني قد أستعين على اله *** مّ إذا خفّ بالثوي النجاء

بزفوف كأنها هقلة *** مّ رئال دوية سقفاء

قوله‏:‏ آذنتنا، أي‏:‏ أعلمتنا‏.‏ والبين‏:‏ الفراق‏.‏ وأسماء‏:‏ حبيبته‏.‏ والثاوي‏:‏ المقيم، يقال‏:‏ ثوى يثوي ثواء وثواية‏:‏ إذا قام؛ وروى جماعة من اللغويين أثوى بمعناه وأنكرها الأصمعي‏.‏ ويملّ بالبناء للمفعول، من الملل وهو الضجر والسأم‏.‏ وهذا المصراع الثاني من قبيل إرسال المثل‏.‏

وقوله‏:‏ بعد عهد لها الخ، البرقة، بالضم‏:‏ رابية فيها حجارة يخلطها رمل وطين؛ وشماء‏:‏ اسم أكمة‏.‏ وأدنى‏:‏ أقرب‏.‏ والخلصاء‏:‏ موضع أيضاً يقول‏:‏ عزمت على فراقنا بعد أن لقيتها ببرقة شمّاء، والخلصاء هي أقرب ديارها إلينا‏.‏

ثم اورد بيتين آخرين فيهما أسامي أماكن معطوفة على الخلصاء، لا فائدة في إيرادها‏.‏

وقوله‏:‏ لا أرى من عهدت الخ، دلهاً أي‏:‏ باطلاً، وهو مفعول مطلق، وقيل‏:‏ هو من قولهم دلّهني أي‏:‏ حيّرني، فهو تمييز‏.‏ يقول‏:‏ لا أرىفي هذه المواضع من عهدت، وهي أسماء، فأنا أبكي اليوم بكاء باطلاً، وذاهب العقل‏.‏ وما استفهامية للإنكار، أي‏:‏ لا يردّ البكاء شيئاً على صاحبه‏.‏ يعني‏:‏ لما خلّت هذه المواضع منها بكيت جزعاً لفراقها، مع علمي أنه لا فائدة في البكاء‏.‏

وروي أيضاً‏:‏

لا أرى من عهدت فيها فأبكي *** أهل ودّي وما يردّ البكاء

أي‏:‏ فأنا أبكي أهل مودتي، شوقاً إليهم، حين نظرت إلى منازلهم الخالية، وروي أيضاً‏:‏ وما يحير البكاء من أحاره بالمهملة، أي‏:‏ رجعه‏.‏

وقوله‏:‏ وبعينيك أوقدت الخ، أي‏:‏ وترى بعينيك وبمرأى عينيك؛ يقال‏:‏ هو مني بمرأى ومسمع، أي‏:‏ حيث أراه وأسمعه‏.‏ والمعنى‏:‏ أوقدت النار تراها لقربها منك‏.‏ وهند ممن كانت تواصله بتلك المنازل‏.‏ وأصيلاً‏:‏ ظرف بمعنى العشي؛ وروي بدله أخيراً أي‏:‏ في آخر عهدك بها‏.‏ يقول‏:‏ قد رأيت نارها بتلك المنازل، ثم رأيتها قد نزلت بالعلياء، فرأيت نارها من بعيد‏.‏

والعلياء، بالفتح‏:‏ ما ارتفع من الأرض؛ وإنما يريد العالية وهي أرض الحجاز وما والاها من بلاد قيس‏.‏ ويقال‏:‏ قد ألوت الأرض بالنار تلوي بها إلواء، أي‏:‏ رفعتها؛ وكذلك الناقة‏:‏ ألوت‏:‏ إذا رفعت ذنبها فلوّحت به‏.‏

وقوله‏:‏ أوقدتها بين العقيق الخ، العقيق وشخصان، قال الأخفش‏:‏ شخصان‏:‏ أكمة لها قرنان ناتئان وهما الشعبتان‏.‏ والعود هو عود البخور‏.‏ وأراد بالضياء ضياء الفجر؛ وقيل ضياء السراج‏.‏

وقوله‏:‏ فتنوّرت نارها الخ، يقال‏:‏ تنورت النار‏:‏ إذا نظرتها بالليل لتعلم‏:‏أقريبة هي أم بعيدة‏؟‏ أكثيرة أم قليلة‏؟‏ وخزاز، بفتح الخاء المعجمة والزاءين المعجمتين‏:‏ موضع‏.‏

وقوله‏:‏ هيهات الخ، يقول‏:‏ رأيت نارها فطمعت أن تكون قريبة، وتأملتها فإذا هي بعيدة بخزار، فلما يئست منها قلت‏:‏ هيهات‏!‏ أخبر أنه رآها بالعلياء، ثم أخبر أنه رآها بين العقيق وشخصين، ثم بخزاز، وهو جبل‏.‏ والصلاء‏:‏ مصدر صلا النار وصلي بالنار يصلى صلاء‏.‏ إذا ناله حرها‏.‏

وقوله‏:‏ غير أني قد أستعين‏.‏‏.‏ الخ، بنقل حركة الهمزة إلى دال قد وخف فلان للمضي، إذا تحرك لذلك؛ يقال‏:‏ خف يخف خفة‏.‏ والثوي مبالغة ثاو، أي‏:‏ مقيم‏.‏ والنجاء بفتح النون والجيم‏:‏ المضي؛ يقال‏:‏ منه نجا ينجو نجاءً ونجواً‏.‏ والباء للتعدية‏.‏ أي‏:‏ إذا اضطر المقيم للسفر وأقلقه السير والمضي، لعظم الخطب وشدة الخوف‏.‏

وبهذا البيت خرج من صفة النساء وصار إلى صفة ناقته على طريقة الاستثناء المنقطع من قوله فتنورت، ومن قوله وما يرد البكاء، أي‏:‏ وما يرد على بكائي بعد أن تباعدت عني فاهتممت بذلك، لكني أستعين على همي بهذه الناقة الآتي وصفها فيما بعد‏.‏ فغير الاستثناء المنقطع، وفتحتها إما حركة إعراب، وإما فتحة بناء، بنيت لإضافتها إلى مبني، فتكون حينئذ في محل نصب‏.‏

وقوله‏:‏ بزفوف كأنها الخ، الباء متعلقة بأستعين‏.‏ والزفوف، بفتح الزاي المعجمة وبفاءين، أراد به الناقة السريعة؛ من الزفيف وهو السرعة؛ وأكثر ما يستعمل في النعام‏.‏ شبّه ناقته في وطاءتها وسرعتها بنعامة تزفّ - والزفيف مثل الدفيف - وذلك أن النعامة إذا عدت نشرت جناحيها ورفعت ذنبها ومرّت على الأرض أخفّ من الريح، وربما ارتفعت من الأرض لخفتها‏.‏ والزفيف للنعام، والدفيف للطير؛ يقال‏:‏ زفّ النعام يزف زفاً وزفيفاً، ودفّ الطير يدفّ دفّاً ودفيفاً‏.‏ والهقلة، بكسر الهاء وسكون القاف‏:‏ أنثى النعام، والهقل ذكره‏.‏

والرئال، بكسر الراء المهماة فعدها همزة مفتوحة‏:‏ جمع رأل، بفتح الراء وسكون الهمزة، وهو ولد النعام‏.‏ والدويّة، بتشديد الواو، منسوبة إلى الدوّ وهي الأرض البعيدة الواسعة؛ وهو صفة أمّ؛ وكذلك سقفاء، من السقف، بفاء بعد قاف، وهو طول في انحناء، والذكر أسقف‏.‏ يقول‏:‏ أستعين على إزالة همي بناقة مسرعة مكأنها في إسراعها نعامة لها أولاد، طويلة منحنية لا تفارق المفاوز‏.‏

وقد تقدمت ترجمة الحارث بن حلّزة، مع شرح أبيات من هذه المعلقة في الشاهد الثامن والأربعين، في باب التنازع‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد التاسع والثلاثون بعد المائتين وهو من شواهد س‏:‏

أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة *** قليل بها الأصوات إلا بغامها

على أن إلا صفة للأصوات، وهي وإن كانت معرفة بلام الجنس فهي شبيهة بالمنكر‏.‏ ولما كانت إلا الوصفية في صورة الحرف الاستثنائي؛ نقل إعرابها الذي تستحقه إلى ما بعدها؛ فرفع بغامها إنما هو بطريق النقل من إلا إليه‏.‏ والمعنى‏:‏ أن صوتاً غير بغام الناقة قليل في تلك البلدة، وأما بغامها فهو كثير‏.‏

قال الشارح المحقق‏:‏ ويجوز في البيت أن تكون إلا للإستثناء وما بعدها بدلاً من الأصوات، لن في قليل معنى النفي‏.‏ والمعنى على هذا‏:‏ ما في تلك البلدة من جنس الأصوات إلا بغامها، بخلاف المعنى الأول، فإنه يقتضي أن يكون فيها صوت غير البغام لكنه قليل بالنسبة إلى البغام‏.‏ قال‏:‏ ومذهب سيبويه جواز وقوع إلا صفة، مع صحة الاستثناء‏.‏

نسب ابن هشام في المغني هذا الجواز إلى جماعات من النحويين، ثم قال‏:‏ وقد يقال إنه مخالف لمثال سيبويه‏:‏ لو كان معنا رجل إلا زيد لغلبنا؛ ولقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا قال‏:‏ فلا يجوز في إلا هذه أن تكون للإستثناء من جهة المعنى؛ إذ التقدير حينئذ‏:‏ لو كان فيهما آلهة ليس فيهم الله لفسدتا؛ وذلك يقتضي بمفهومه أنه لو كان فيهما آلهة فيهم الله لم يفسدا؛ وليس ذلك المراد‏.‏ ولا من جهة اللفظ، لأن آلهة جمع منكّر في الإثبات فلا عموم له، فلا يصح الاستثناء منه، لو قلت قام رجل إلا زيد، لم يصح اتفاقاً‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا البيت من قصيدة لذي الرمة وقبله‏:‏

ألا خيّلت ميّ وقد نام صحبتي *** فما نفّر التهويم إلا سلامها

طروقاً وجلب الرحل مشدودة به *** سفينة برّ تحت خدي زمامها

أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة *** قليل بها الأصوات إلا بغامها

يمانية في وثبها عجرفية *** إذا انضم إطلاها وأودىسنامها

قوله‏:‏ ألا خيلت مي الخ، خيلت أي‏:‏ رأينا منها خيالاً جاء في المنام‏.‏ وميّ‏:‏ اسم محبوبته‏.‏ وجملة قد نام الخ حالية‏.‏ والتهويم‏:‏ مفعوله، مصدر هوّم الرجل‏:‏ إذا هزّ رأسه من النعاس‏.‏ وسلامها‏:‏ فاعل نفر يقول‏:‏ نفر نومنا حين سلّم الخيال علينا‏.‏

وقوله‏:‏ طروقاً الخ، الطروق‏:‏ مصدر طرق، أي‏:‏ أتى ليلاً؛ وهو من باب قعد‏.‏ يريد‏:‏ خيلت طروقاً‏.‏ وجلب الرحل‏:‏ بكسر الجيم وضمها‏:‏ عيدانه وخشبه؛ وهو مبتدأ، ومشدودة خبره، وسفينة نائب فاعل الخبر؛ وبه، أي‏:‏ بالجلب‏.‏ وأراد بسفينة البرّ الناقة‏.‏ وزمامها مبتدأ، وتحت خدّي خبره‏.‏ والجملة‏:‏ صفة سفينة يريد‏:‏ أنه كان نزل عن ناقته آخر الليل وجعل زمامها تحت خده ونام‏.‏

وقوله‏:‏ أنيخت فألقت‏.‏ الخ، هو مجهول أنختها، أي‏:‏ أبركتها‏.‏ والبلدة الأولى‏:‏ الصدر، والثانية‏:‏ الأرض‏.‏ أي‏:‏ أبركت فألقت صدرها على الأرض‏.‏ والضمير في أنيخت، وألقت، وبغامها، راجع إلى سفينة برّ المراد بها الناقة‏.‏ وقليل بالجرّ صفة سببية للبلدة الثانية‏.‏ والأصوات‏:‏ فاعل قليل؛ والرابط ضمير بها‏.‏

ويجوز رفع قليل على انه خبر الأصوات والجملة صفة‏.‏ والبغام‏:‏ بموحدة مضمومة بعدها غين معجمة، قال صاحب الصحاح‏:‏ بغام الظبية‏:‏ صوتها؛ وكذلك بغام الناقة‏:‏ صوت لا تفصح به؛ وقد بغمت تبغم بالكسر‏.‏

وقوله‏:‏ يمانية في وثبها الخ، بالتخفيف، أي‏:‏ هذه الناقة منسوبة إلى اليمن‏.‏ والوثب، بالمثلثة وثب وثباً ووثوباً‏:‏ إذا ظفر‏.‏ والعجرفية‏:‏ الجفاء وركوب الرأس، وهو أن يسير سيراً مختلطاً‏.‏ وإطلاها‏:‏ خاصرتاها، مثنى إطل بكسر الهمزة‏.‏ وأودى‏:‏ ذهب وهلك‏.‏ يقول‏:‏ هي في ضمرها هكذا شديدة، فكيف تكون قبل الضمر‏؟‏‏!‏ وترجمة ذي الرمّة تقدمت في الشاهد الثامن من أوائل الكتاب‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد الأربعون بعد المائتين وهو من شواهد س‏:‏

وكل أخ مفارقه أخوه *** لعمر أبيك إلا الفرقدان

على أن إلا صفة لكل، مع صحة جعلها أداة استثناء، ونصب الفرقدين على الاستثناء، كما هو الشرط في وصفية إلا‏.‏

قال ابن هشام في المغني‏:‏ والوصف هنا مخصص، فإن ما بعد إلا مطابق لما قبلها، لأن المعنى‏:‏ كل أخوين غير هذين الكوكبين متفارقان‏.‏ وليس إلا استثنائية، وإلا لقال‏:‏ إلا الفرقدين، بالنصب، لأنه بعد كلام تام موجب كما هو الظاهر مع كونه لمستغرق وهو كل أخ؛ كما نصب الشاعر في هذا البيت - وهو من أبيات مذكورة في مختار أشعار القبائل، لأبي تمام صاحب الحماسة، لأسعد الذهلي - وهو‏:‏

وكل أخ مفارقه أخوه *** لشحط الدار إلا ابني شمام

قال أبو عبيد القاسم في أمثاله‏:‏ ابني شمام هنا‏:‏ جبلان‏.‏ وهو بفتح الشين المعجمة وكسر الميم كحذام‏.‏

وفي المرصع لابن الأثير‏:‏ ابنا شمام جبلان في دار بني تميم مما يلي دار عمرو بن كلاب، وقيل‏:‏ شمام هو جبل‏.‏ وابناه‏:‏ رأساه؛ وأنشد الخليل‏:‏

وإنكما على غير الليالي *** لأبقى من فروع ابني شمام اه

وقال حمزة الأصبهاني في أمثاله التي جاءت على أفعل‏:‏ ابنا شمام‏:‏ هضبتان في أصل جبل يقال له‏:‏ شمام‏.‏

وعند ابن الحاجب في البيت الشاهد شذوذ من ثلاثة أوجه‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه اشترط في وقوع إلا صفة تعذر الاستثناء، وهنا يصح لو نصبه‏.‏

وثانيهما‏:‏ وصف المضاف، والمشهور وصف المضاف إليه‏.‏ وثالثهما‏:‏ الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر، وهو قليل‏.‏

قال صاحب المقتبس‏:‏ وفي البيت تخريج يتراءى لي غير بعيد عن الصواب، وهو أن يجعل قوله‏:‏ مفارقه أخوه‏:‏ صفة لكل - وصاغ ذلك لكونه نكرة إذ أضافته لفظية - ثم يجعل إلا الفرقدان خباً للمبتدأ الموصوف؛ ولا يخرج جعلها خبراً عن الوصفية؛ لأن الخبر أيضاً صفة حقيقية‏.‏ فتكون إلا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا الله لفسدتا صفة نحوية‏.‏ وفي البيت صفة معنوية، وبهذا الوجه يخرج الكلام عن تخلل الخبر بين الصفة والموصوف‏.‏

وتقدير البيت على ما ذكرت‏:‏ وكل أخ مفارق أخاه مغاير للفرقدين، أي‏:‏ ليس على صفتهما، لأنهما لا يفترقان منذ كانا‏.‏ انتهى‏.‏

ورده السيد عبد الله في شرح اللب بقوله‏:‏ ولا يجوز أن يجعل مفارقه صفة وإلا الفرقدان خبراً؛ حتى يتخلص من هذه الفسادات كما قيل، لفساد المعنى‏.‏ ووجهه أن المراد الحكم من على كل أخ بأنه مفارق أخاه في الدنيا سوى الفرقدين، فإنهما لا يفترقان إلا عند فناء الدنيا، وليس المعنى على ما ذكره، فإنه يقتضي مفهومه‏:‏ أن كل أخ لا يفارق أخاه، مثل الفرقدين في اجتماع الشمل‏.‏ وليس في الدنيا أخوان لا يفترقان‏.‏ فتأمل‏.‏

وفي البيت تخاريج أخر‏:‏ إحداهما للكوفيين، نقله عنهم ابن الأنباري في مسائل الخلاف‏:‏ أن إلا هنا بمعنى الواو، وهي تأتي بمعناه كثيراً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا أي‏:‏ ولا الذين ظلموا لا تكون لهم أيضاً حجة؛ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم أي‏:‏ ومن ظلم لا يحب أيضاً الجهر بالسوء منه - وكذا قال السيد المرتضى في أماليه في أحد أوجه إلا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن إلا بمعنى الواو - وأورد هذا البيت وغيره شاهداً لمجيء إلا بمعنى الواو - وأجاب البصريون أن إلا في البيت بمعنى غير، وفي الآيات للاستثناء المنقطع‏.‏

ثانيها ما ذهب إليه الكسائي‏.‏ أن أصله إلا أن يكون الفرقدان؛ وقد رد سيبويه هذا القول كما بينه الشرح المحقق‏.‏

قال أبو علي - في الإيضاح الشعري -‏:‏ أنشد سيبويه هذا البيت وقال‏:‏ لا يجوز أن يكون قوله‏:‏ إلا الفرقدان، على تقدير إلا أن يكون الفرقدان‏.‏ وإنما لم يجز هذا لأنك لا تحذف الموصول، وتدع الصلة، لأن الصلة تذكر للتخصيص والإيضاح للموصول، فإذا حذفت الموصول لم يجز حذفه وذكرك ما يكون إيضاحاً له‏.‏

ونظير ذلك أجمعون في التوكيد، لا يجوز أن تذكره وتحذف المؤكد‏.‏ فإن قلت‏:‏ لم لا يكون كالصفة والموصوف في جواز حذف الموصوف وذكر الصفة، وكذلك تحذف الموصول وتذكر الصلة‏؟‏ قلت‏:‏ لم يكن في هذا كالوصف إذا كان مفرداً؛ ألا ترى أن الوصف إذا كان مفرداً كان كالموصوف في الإفراد وإذا كان مثله جاز وقوعه مواقع الموصوف من حيث كان مفرداً مثله، مع استقباح لذلك‏.‏

فأما الصلة فلا تقع مواقع المفرد، من حيث كانت جملاً، كما لم يجز أن تبدل الجمل من المفرد، من حيث كان البدل في تقدير تكرير العامل، والعامل في المفرد لا يعمل في لفظ الجملة، فكذلك لا يجوز أن تحذف الموصول وتقيم الصلة مقامه‏.‏ فإن قلت‏:‏ هلاّ جاز حذفها كما جاز حذف الصلات وإبقاء الموصولة، كقوله‏:‏ بعد اللتيا والتي‏؟‏ قلت‏:‏ إبقاء الموصول وحذف الصلة أشبه من عكس ذلك، لأن الموصول مفرد وليس كالصلة التي هي جملة؛ فكذلك جاء في الشعر ولم يمتنع، كما لا يمتنع أن يذكر المؤكد ولا يذكر التأكيد‏.‏ ولو ذكرت أجمعون ونحوه، ولم تذكر المؤكد لم يجز‏.‏ انتهى كلام أبي علي؛ ولكثرة فوائده نقلناه برمّته‏.‏

ثالثهما ما نقله بعض شرّاح أبيات المفصل من فضلاء العجم، وهو أن إلا هنا بمعنى حتى، والمعنى‏:‏ كل أخ مفارقه أخوه حتى إن الفرقدين، مع شدة اجتماعهما وكثرة مصاحبتهما، يفرق كل واحد منهما عن صاحبه؛ فما ظنك بغيرهما‏!‏ قال‏:‏ وعلى هذا تكون إلا مستعملة استعمال حتى، للمناسبة بين الاستثناء والغاية؛ ويكون ذلك كقولهم‏:‏ مات الناس حتى الأنبياء‏.‏ هذا كلامه، وليس المعنى على ما زعمه، وفيه تعسف أيضاً‏.‏

رابعها‏:‏ ما ذكره ابن الأنباري في مسائل الخلاف‏:‏ أن إلا هنا للاستثناء المنقطع، قال‏:‏ أراد لكن الفرقدان فإنهما لا يفترقان، على زعمهم في بقاء هذه الأشياء‏.‏ هو غير متبادر منه، وهو كقول الأعلم في شرح أبيات الكتاب‏:‏ وهذا على مذهب الجاهلية، مع أن قائل هذا البيت صحابي كما سيأتي‏.‏

وسبقهما المبرد في الكامل، فإنه بعد أن نسب البيت لعمرو بن معد يكرب، اعتذر عنه فقال‏:‏ وهذا البيت قاله قبل أن يسلم‏.‏ ثم أورد عقبه بيت أبي العتاهية، دليلاً على ما فهمه، بقوله‏:‏ وقال اسماعيل بن القاسم‏:‏

ولم أر ما يدوم له اجتماع *** سيفترق اجتماع الفرقدين

ونحن نقول‏:‏ محمل هذا البيت أنهما يفترقان عند قيام الساعة‏.‏ ولكل وجهة‏.‏ والفرقدان‏:‏ نجمان قريبان من القطب لا يفارق أحدهما الآخر‏.‏

وبقي في البيت احتمال وجه آخر، لم أر من ذكره، وهو أن تكون إلا للاستثناء، والفرقدان منصوب بعد تمام الكلام الموجب، لكنه بفتحة مقدرة على الألف، على لغة من يلزم المثنى الألف في الأحوال الثلاثة، وهي لغة بني الحارث بن كعب‏.‏ والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ وكل أخ مفارقه أخوه قال الفاليّ في شرح اللباب‏:‏ يحتمل وجوهاً من الإعراب‏:‏ أحدها‏:‏ أن يكون كل مبتدأ ومفارقه خبره وأخوه فاعل مفارقه‏.‏ والثاني‏:‏ أن يكون كل مبتدأ ومفارقه مبتدأ ثانياً وأخوه خبره والحملة خبر الأول‏.‏ الثالث‏:‏ أن يكون كل مبتدأ وأخوه مبتدأ ثانياً ومفارقه خبر المقدم والجملة خبر الأول‏.‏ الرابع‏:‏ أن يكون كل مبتدأ ومفارقه بدلاً منه وأخوه خبر كلّ، أي‏:‏ مفارق كل أخ أخوه‏.‏ الخامس‏:‏ ان يكون مفارقه بدلاً من كل وأخوه مبتدأ وكل أخ مفارقه خبر مقدم انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ لعمر أبيك مبتدأ خبره محذوف تقديره‏:‏ قسمي‏.‏ والجملة معترضة‏.‏ وهذا البيت جاء في شعرين لصحابيين‏:‏ أحدهما‏:‏ عمرو بن معد يكرب، انشده الجاحظ في البيان والتبيين له، وكذا نسبه إليه المبرّد في الكامل، وصاحب جمهرة الأشعار، وغيرهم - وتقدمت ترجمته في الشاهد الرابع والخمسين بعد المائة‏.‏

الثاني حضرمي بن عامر الأسدي‏:‏ قال الآمدي في المؤتلف والمختلف‏:‏ هو حضرمي بن عامر بن مجمّع بن موعلة بن هشام بن ضب بن كعب بن القين بن مالك بن ثعلبة بن دودان بن أسد‏.‏ وهو شاعر فارس سيد، وله في كتاب بني أسد أشعار وأخبار حسان، وهو القائل‏:‏

ألا عجبت عميرة أمس لمّ *** رأت شيب الذؤابة قد علاني

تقول‏:‏ أرى أبي قد شاب بعدي *** وأقصر عن مطالبة الغواني

إلى أن قال‏:‏

وذي فخم عزفت النفس عنه *** حذار الشامتين وقد شجاني

قطعت قرينتي عنه فأغنى *** غناه فلم أراه ولم يراني

وكل قرينة قرنت بأخرى *** ولو ضنت بها ستفرّقان

وكل أخ مفارقة أخوه *** لعر أبيك ألا الفرقدان

وكل إجابتي إياه أني *** عطفت عليه خوّار العنان

والذؤابة‏:‏ الخصلة من الشعر‏.‏ والفخم‏:‏ بفتح الفاء وسكون الخاء المعجمة‏:‏ التعظم والاستعلاء؛ ومثله الفخيمة بالتصغير‏.‏ وعزفت، بالعين المهملة والزاي والفاء، أي‏:‏ صرفت‏.‏ وحذار‏:‏ مفعول لأجله لقوله عزفت‏.‏ وجملة وقد شجاني، أي‏:‏ أحزنني، حالية‏.‏

وقوله‏:‏ قطعت قرينتي، هو جواب ربّ المقدّرة في قوله‏:‏ وذي فخم‏.‏ ومعناه كل نفس مقرونة بأخرى ستفارقها‏.‏ وضنّت‏:‏ بخلت‏.‏ وقوله‏:‏ وكل إجابتي، كلّ‏:‏ فعل ماض من الكلال‏.‏ ويروى‏:‏ وكان إجابتي إياه‏.‏

وحضرمي بفتح الحاء المهملة وسكون الضاد المعجمة وبعد الراء ميم مكسورة بعدها ياء مشددة‏.‏ ومجمّع بوزن اسم الفاعل من جمع تجميعاً‏.‏ وموألة، بفتح الميم وسكون الواو وبعدها همزة مفتوحة، قال في القاموس‏:‏ وبنو موألة كمسعدة‏:‏ بطن، وهو مفعلة اسم مكان من وأل إليه يئل بمعنى لجأ وخلص؛ والموئل‏:‏ الملجأ‏.‏

وضبطه ابن حجر في الإصابة مولة بفتحات، وأورد حمام بدل هشام وأورد باقي النسب كما ذكرنا، وقال‏:‏ ذكره ابن شاهين وغيره في الصحابة‏.‏ وروى أبو يعلى وابن نافع، من طريق محفوظ بن علقمة، عن حضرمي بن عامر الأسدي - وكانت له صحبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إذا بال أحدكم فلا يستقبل الريح ولا يستنجي بيمينه - قال السيوطي في شرح شواهد المغني‏:‏ ولم أقف لحضرمي على رواية غير هذا الحديث‏.‏

قال ابن حجر‏:‏ وروى ابن شاهين من طريق المدائني عن جماعة أنهم قالوا‏:‏ وفد بنو أسد بن خزيمة، وفيهم حضرمي بن عامر وضرار بن الأزور، وسلمة وقتادة وأبو مكعت‏.‏ فذكر الحديث في قصة إسلامهم وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً‏.‏ قال‏:‏ فتعلّم حضرمي بن عامر سورة عبس وتولى فزاد فيها‏:‏ وهو الذي أنعم على الحبلى، فأخرج منها نسمة تسعى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تزد فيها ‏.‏

وأخرجه من طريق منجاب بن الحارث من طرق ذكر فيها أن السورة سبح اسم ربك الأعلى‏:‏ وروى عمر بن شبّة بإسناد صحيح إلى أبي وائل قال‏:‏ وفد بنو أسد فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ من أنتم‏؟‏ قالوا‏:‏ نحن بنو الزنية أحلاس الخيل‏!‏ قال‏:‏ بل أنتم بنو الرشدة‏!‏ فقالوا‏:‏ لا ندع اسم أبينا وذكر قصة طويلة‏.‏

وقال المرزباني في معجمه‏:‏ كان حضرمي يكنى أبا كدام؛ ولما سأله عمر بن الخطاب عن شعره في حرب الأعاجم، أنشده أبياتاً حسنة في ذلك‏.‏

وروى أبو عليّ القاليّ من طريق ابن الكلبي قال‏:‏ كان حضرمي بن عامر عاشر عشرة من إخوته، فماتوا فورثهم، فقال فيه ابن عم له يقال له جزء بن مالك‏:‏ يا حضرمي ورثت تسعة إخوة فأصبحت ناعماً‏!‏ فقال حضرمي، من أبيات‏:‏

إن كنت قاولتني بها كذب *** جزء فلاقيت مثلها عجلا

فجلس جزء على شفير بئر هو وإخوته - وهم أيضاً تسعة - فانخسفت بهم فلم ينج غير جزء، فبلغ ذلك حضرمي بن عامر فقال‏:‏ كلمة وافقت قدرا، وأبقت حقدا‏!‏ انتهى ما أورده ابن حجر في الإصابة‏.‏

وهذا البيت الذي نقله عن أبي القاليّ، هو أحد أبيات ثلاثة أوردها ابن السيد البطليوسي في شرح شواهد أدب الكاتب وهي‏:‏

يزعم جزء ولم يقل جلل *** أني تروّحت ناعماً جذلا

إن كنت أزننتني بها كذب *** جزء فلاقيت مثلها عجلا

أفرح أن أرزأ الكرام وأن *** أورث ذوداً شصائصاً نبلا

وجزء، بفتح الجيم وسكون الزاي وثالثه همزة؛ وهومنادى في البيت الثاني‏.‏ والجلل هنا بمعنى الحقير ويأتي بمعنى العظيم أيضاً، وهو من الأضداد‏.‏ وتروّح بالحاء المهملة‏:‏ صار ذا راحة‏.‏ وناعم‏:‏ وصف من النعيم، وهو الخفض والدّعة والمال‏.‏ وجذلان بمعنى فرحان، من الجذل، بفتحتين، وهو الفرح‏.‏ وأزننتني‏:‏ اتهمتني؛ يقال‏:‏ زننته وأزننته بكذا‏:‏ إذا اتهمته به ونسبته إليه‏.‏ وقوله‏:‏ أفرح، أراد أأفرح، على معنى التقرير والإنكار، فترك ذكر الهمزة وهو يريدها حين فهم ما أراد؛ وهذا قبيح، وإنما يحسن حذفها مع أم‏.‏

وقد أورده صاحب الكشاف في تفسيره دليلاً على حذف همزة الاستفهام‏.‏

والرزء، براء مضمومة وزاي ساكنة بعدها همزة، قال صاحب القاموس‏:‏ رزأه ماله، كجعله وعمله، رزْاً بالضم‏:‏أصاب منه شيئاً‏.‏ فالمفعول الثاني في البيت محذوف، أي‏:‏ أرزأ الكرام مالهم‏.‏ وأورث بالبناء للمفعول‏.‏

والذود من الإبل‏:‏ دون العشرة، وأكثر ما يستعمل في الإناث‏.‏ والشصائص التي لا ألبان لها؛ الواحد شصوص، بفتح المعجمة وإهمال الصادين؛ يقال‏:‏ شصّت الناقة وأشصت‏.‏

والنبل، بفتح النون والموحدة‏:‏ الصغار؛ قال في القاموس‏:‏ والنبل محركة‏:‏ عظام الحجارة والمدر وصغارهما‏.‏

تتمة‏:‏

أورد الآمدي في المؤتلف والمختلف اثنين من الشعراء ممن اسمه حضرمي، أحدهما هذا الصحابي‏.‏

والثاني حضرمي بن الفلندح بفتح الفاء واللام وسكون النون وفتح الدال وآخره حاء مهملة قال‏:‏ هو أخو بني حرام بن عوف المشجعي‏.‏ وبنو مشجعة بن تيم بن النمر بن وبرة، أخو كلب بن وبرة؛ شاعر، وهو القائل‏:‏

إذا نفحت من نحو أرضك نفحة *** رياح الصبا يا قيل طاب نسيمها

كأنك في الجلباب شمس نقيّة *** تجوّب عنها يوم دجن غيومها

انتهى‏.‏

وقيل مرخّم قيلة بالقاف اسم امرأة، ولا أعرف هل هو إسلامي ولا‏.‏ والله أعلم‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد الحادي والأربعون بعد المائتين

241 - ولم يبق سوى العدوان دنّاهم كما دانوا

على أن سوى قد خرجت من الظرفية إلى الاستثناء عند الكوفيين، وهي هنا مرفوعة بضمة مقدرة على الألف على أنها بدل من فاعل لم يبق المحذوف، أي‏:‏ لم يبق شيء سوى العدوان‏.‏ وهذا عند البصريين شاذ لا يجيء إلا في ضرورة الشعر‏.‏

وهذا البيت من قصيدة للفند الزمّاني، قالها في حرب البسوس؛ أورد قطعة منها أبو تمام في أول الحماسة، وهي‏:‏

صفحنا عن بني ذهل *** وقلنا‏:‏ القوم إخوان

عسى الأيام أن يرجع *** ن قوماً كالذي كانوا

فلما صرّح الشر *** فأمسى وهو عريان

ولم يبق سوى العدو *** ن دنّاهم كما دانوا

مشينا مشية الليث *** غدا والليث غضبان

بضرب فيه توهين *** وتخضيع وإقران

وطعن كفم الزقّ *** غدا والزقّ ملآن

وبعض الحلم عند الجه *** ل للذلة إذعان‏!‏

وفي الشر نجاة حي *** ن لا ينجيك إحسان

الصفح‏:‏ العفو؛ وحقيقته أعرضنا عنهم وأوليناهم صفحة عنقنا‏.‏ وروي‏:‏ عن بني هند، وهي هند بنت مرّ بن أدّ أخت تميم‏.‏ وقوله‏:‏ عسى الأيام الخ، قال المرزوقيّ‏:‏ لا يجوز أن يكون الذي بمعنى الذين، لأن الموصول والصلة يصير صفة لقوم آخرين كالقوم المذكورين، بل التقدير‏:‏ أن يرددن دأب القوم كائناً كالدأب الذي كانوا عليه‏.‏

وفي هذا الوجه يجوز أن يكون الذي للجنس، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏والذي جاء بالصدق وصدق به ثم قال‏:‏ أولئك‏.‏ والفصل بين هذا الوجه والوجه الأول أنه أمّل في الوجه الأول أنهم إذا عفوا عنهم أدّبتهم الأيام وردّت أحوالهم كأحوالهم فيما مضى‏:‏ في الاتفاق والتوادّ؛ وفي الوجه الثاني أمّل أن ترجع الأيام أنفسهم، إذا صفحوا عنهم، كما عهدت‏:‏ سلامة صدور وكرم عهود انتهى‏.‏

ومعنى يرجعن‏:‏ يرددن من باب فعل وفعلته، يقال‏:‏ رجع فلان رجوعاً ومرجعاً ورجعاناً ورجعته رجعاً؛ والعائد محذوف، أي‏:‏ كالذي كانوه، وهو خبر كان‏.‏

وهذا البيت أورده ابن هشام في المغني على ان بعضهم استدل به على أن المعرفة إذا أعيدت نكرة كانت عينها، على القاعدة المشهورة‏.‏

وصرّح بمعنى انكشف، ويأتي أيضاً متعدّياً بمعنى كشفه‏.‏ وجملة وهو عريان خبر أمسى؛ وذكر العريان مثل لظهور الشرّ‏.‏ وروي‏:‏ فأضحى وهو عريان وهذه احسن، لأن الشيء في الضحى أشهر‏.‏

وقوله‏:‏ ولم يبق سوى العدوان معطوف على قوله صرّح‏.‏

وقوله‏:‏ دنّاهم‏.‏‏.‏ الخ جواب لما‏.‏ والعدوان‏:‏ الظلم الصريح‏.‏ والدين‏:‏ الجزاء‏.‏ وأورد البيضاوي هذا البيت في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مالك يوم الدين على أن الدين الجزاء‏.‏ والمعنى‏:‏ لما أصرّوا على البغي وأبوا أن يدعوا الظلم، ولم يبق إلا أن نقاتلهم ونعتدي عليهم كما اعتدوا علينا، جازيناهم بفعلهم القبيح كما ابتدؤونا به‏.‏ وإطلاق المجازاة على فعلهم مشاكلة، على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه ‏.‏

وقوله‏:‏ مشينا مشية الخ، هذا تفصيل لما أجمله في قوله دنّاهم، وتفسير لكيفية المجازاة‏.‏ وكرّر الليث ولم يأت به مضمراً، تفخيماً وتعظيماً‏.‏

والمعنى‏:‏ مشينا إليهم مشية الأسد ابتكر وهو جائع‏.‏ وكنى عن الجوع بالغضب، لأنه يصحبه‏.‏ وغدا بمعجمة فمهملة، ولا يجوز بمهملتين لأن الليث لا يكون ماشياً عادياً في حال‏.‏ فإن قيل‏:‏ اجعله من العدوان،، قلت‏:‏ الليث لا يمشي في حال عدوانه وإنما يشدّ شدّاً؛ ويجوز على رواية شددنا شدة الليث على أنه من العدوان‏.‏

وقوله‏:‏ بضرب فيه توهين الخ، الباء تتعلق بمشينا‏.‏ والتوهين‏:‏ التضعيف‏.‏ والإقران‏:‏ مواصلة لا فتور فيها‏.‏ وروي‏:‏

بضرب فيه تفجيع *** وتأييم وإرنان

والتأييم‏:‏ جعل المرأة أيّماً؛ والأيّم هي التي قتل زوجه ومات‏.‏ والإرنان، من الرنين والبكاء، يقال‏:‏ رنّ وأرنّ‏.‏

وقوله‏:‏ وطعن كفم الزقّ الخ، غذا بمعجمتين بمعنى سال، يقال‏:‏ غذا يغذو غذواً والاسم الغذاء، أي‏:‏ وطعن في اتساعه وخروج الدم منه كفم الزق إذا سال بما فيه وهو مملوء‏.‏ وجملة إذا مع ضميره بتقدير قد، حالية‏.‏

وقوله‏:‏ وبعض الحلم الخ، الإذعان‏:‏ الانقياد، يقال‏:‏ أذعن لكذا‏:‏ إذا انقاد له؛ وأذعن بكذا‏:‏ إذا أقرّ به‏.‏ اعتذر في هذا البيت عن تركهم التحلم مع الأقرباء، بأنه كان يفضي إلى الذل‏.‏

وقوله‏:‏ وفي الشر نجاة الخ أراد في دفع الشر؛ ويجوز أن يريد وفي عمل الشر نجاة، كانه يريد‏:‏ وفي الإساءة مخلص إذا لم يخلّصك الإحسان‏.‏

والفند الزمّاني اسمه شهل بن شيبان بن ربيعة بن زمّان الحنفي‏.‏ فهو منسوب إلى جد أبيه‏.‏ وشهل بالشين، وليس في العرب شهل بالمعجمة إلا هو وشهل بن أنمار من قبيلة بجيلة‏.‏ وزمّان بكسر الزاي وتشديد الميم، هو إما فعلان من زممت؛ وفعّال من الزمن‏.‏ والفند بكسر الفاء وسكون النون‏:‏ القطعة من الجبل، وإنما لقّب به، لأن بكر بن وائل بعثوا إلى بني حنيفة - في حرب البسوس - لينصروهم، فأمدّوهم به وكتبوا إليهم‏:‏ قد بعثنا إليكم بثلثمائة فارس‏!‏ فلما أتى بكراً وهو مسنّ قالوا‏:‏ وما يغني هذا العشبة‏!‏ قال‏:‏ وما ترضون أن أكون لكم فنداً تأوون إليه‏؟‏ فلقب به‏.‏‏.‏‏.‏ والعشبة، بفتحات العين المهملة والشين المعجمة والتاء الموحدة‏:‏ الشيخ الكبير؛ ويقال‏:‏ العشمة بالميم بدل الموحدة، كذا في إعراب الحماسة لابن جنّي‏.‏

وفي الأغاني‏:‏ كان الفند أحد فرسان ربيعة المشهورين المعدودين، شهد حرب بكر وتغلب وقد قارب المائة سنة، فأبلى بلاء حسناً‏.‏ وإنما لقّب فنداً، لأن بكر بن وائل بعثوا إلى بني حنيفة يستنصرونهم‏.‏ وذكر الحكاية التي ذكرناها، ثم قال‏:‏ فوجّهوا إليهم بالفند الزمّاني، في سبعين رجلاً، وكتبوا إليه‏:‏ إنا قد بعثنا إليكم ألف رجل‏!‏‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد الثاني والأربعون بعد المائتين

تجانف عن جو اليمامة ناقتي *** وما عدلت عن أهلها لسوائكا

على أن خروج سواء عن الظرفية شاذ خاص بالشعر، وإذا خرجت كانت بمعنى غير‏.‏

وقد استفتى بعضهم من جملة أسئلة أربعة‏:‏ هل تكون سواء بمعنى غير‏؟‏ فأجابه أبو نزار الملقب بملك النحاة، بأنه قد نص على أنها لا تأتي إلا ظرف مكان، وأن استعمالها اسماً متصرفاً بوجوه الإعراب بمعنى غير خطأ‏.‏

ونقل ابن الشجري في أماليه صورة الاستفتاء الأسئلة الأربعة، وما أجاب به أبو نزار، وجواب الإمام أبي منصور الجواليقي واستجهل أبا نزار وذمّه، وخطّأه تبعاً للجواليقي، وأصاب هو أيضاً عن الأسئلة وقال في سوى‏:‏ وأما سوى فإن العرب استعملتها استثناء، وهي في ذلك منصوبة على الظرف، بدلالة أن النصب يظهر فيها إذا مدّت؛ فإذا قلت أتاني القوم سواءك فكأنك قلت مكانك‏.‏

واستدلّ الأخفش على أنها ظرف بوصلهم الاسم الناقص بها في نحو‏:‏ أتاني الذي سواك‏.‏ والكوفيون يرون استعمالها بمعنى غير‏.‏ وأقول‏:‏ إدخال الجارّ عليها في قول الأعشى‏:‏

وما قصدت من أهلها لسوائكا

يخرجها عن الظرفية‏.‏ وإنما استجازت العرب ذلك فيها تشبيهاً لها بغير، من حيث استعملوها استثناء‏.‏ وعلى تشبيهها بغير، قال أبو الطيب‏:‏

أرض لها شرف سواها مثله *** لو كان مثلك في سواها يوجد

رفع سوى الأولى بالابتداء وخفض الثانية بفي، فأخرجهما من الظرفية‏.‏ فمن خطّأه فقد خطّأ الأعشى في قوله‏:‏ لسوائكا؛ ومن خطأ الأعشى في لغته التي جبل عليها - وشعره يستشهد به في كتاب الله تعالى - فقد شهد على نفسه بأنه مدخول العقل ضارب في غمرة الجهل‏.‏ ومن العجب أن هذا الجاهل يقدم على تخطئة سلف النحويين وخلفهم، وتخطئة الشعراء الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين، ولا يؤثر عنه انه قرأ مصنفاً في النحو إلا مقدمة من تأليف عبد القاهر الجرجاني، قيل‏:‏ إنها لا تبلغ أن تكون في عشر أوراق‏!‏ وقيل إنه لا يملك من كتب النحو واللغة ما مقداره عشر أوراق‏!‏ وهو مع ذلك يردّ بقحّته على الخليل وسيبويه‏!‏ إنها لوصمة اتسم بها زماننا هذا لا يبعد عارها ولا ينقضي شنارها‏.‏

وإنما طلب بتلفيق هذه الأهواس، أن تسطّر فتوى، فيثبت خطّه فيها مع خط غيره‏.‏ فيقال‏:‏ أجاب أبو نزار بكذا، وأجاب غيره بكذا وقد أدرك لعمر الله مطلوبه، وبلغ مقصوده؛ ولولا إيجاب حق من أوجبت حقه والتزمت وفاقه، واحترمت خطابه، لصنت خطي ولفظي عن مجاورة خطه ولفظه‏:‏ انتهى كلام ابن الشجري‏.‏

واجاب الجواليقي بقوله‏:‏ وأما سوى فلم يختلفوا في أنها تكون بمعنى غير، تقول‏:‏ رأيت سواك، أي‏:‏ غيرك‏.‏ وحكى ذلك أبو عبيد عن أبي عبيدة‏.‏ وقال الأعشى‏:‏

وما قصدت من أهلها لسوائك

أي‏:‏ لغيرك، وهي أيضاً غير ظرف؛ وتقدير الخليل لها بالظرف في الاستثناء بمعنى مكان وبدل، لا يخرجها عن ان تكون بمعنى غير‏.‏ وفيها لغات‏:‏ إذا فتحت مدّت لا غير، وإذا ضمت قصرت لا غير، وإذا كسرت جاز المد والقصر أكثر‏.‏ وما يحمل المتكلم بالقول الهراء إلا فشوّ الجهل‏.‏ انتهى‏.‏

وقد حكى ابن الأنباري في مسائل الخلاف مذهب البصريين والكوفيين مفضّلاً، فلا بأس بإيراده مجملاً‏.‏ قال‏:‏ ذهب الكوفيون إلى أن سواء تكون اسماً وتكون ظرفاً، واحتجوا على أنها تكون اسماً بمنزلة غير ولا تلزم الظرفية، انهم يدخلون عليها حرف الخفض، قال المرّار بن سلامة العجليّ‏:‏

ولا ينطق الفحشاء من كان منهم *** إذا جلسوا منا ولا من سوائنا

وقال الآخر‏:‏

وما قصدت من أهلها لسوائكا

وقال أبو دواد‏:‏

وكل من ظن أن الموت مخطئه *** مجلل بسواء الحق مكذوب

وقال الآخر‏:‏

أكرّ على الكتيبة لا أبالي *** أفيها كان حتفي أم سواها

وروي عن بعض العرب أنه قال‏:‏ أتاني سواؤك؛ فرفع‏.‏ وذهب البصريون إلى أنها لا تكون إلا ظرفاً، واحتجوا بأنها ما استعملت في اختيار الكلام إلا ظرفاً، قالوا‏:‏ مررت بالذي سواك‏.‏ فوقوعها صلة يدلّ على ظرفيتها، بخلاف غير‏.‏ وقولهم‏:‏ مررت برجل سواك، أي‏:‏ برجل مكانك، أي‏:‏ يغني غناءك ويسدّ مسدك‏.‏ والذي يدل على تغاير سوى وغير، ان سوى لا تضاف إلا إلى معرفة، نحو مررت برجل سواك، وسوى العاقل؛ ولو قلت‏:‏ سوى عاقل لم يجز، ولو قلت غير عاقل، جاز‏.‏ ويدل على ظرفية سوى، أن العامل يتعداها، قال لبيد‏:‏

وابذل سوام المال *** ن سواءها دهماً وجونا

فنصب سواءها على الظرف ودهماً بأن‏.‏‏.‏ وأجابوا عن الأبيات بأنه إنما جاز ذلك لضرورة الشعر، وعندنا يجوز خروجها عن الظرفية في ضرورة الشعر، ولم يقع الخلاف في حال الضرورة، وإنما استعملوها بمنزلة غير في الضرورة، لأنها في معناها؛ وليس شيء يضطرون إليه إلا ويحاولون له وجهاً‏.‏ وأما رواية‏:‏ أتاني سواؤك، فرواية تفرّد بها الفرّاء عن أبي ثروان وهي رواية شاذة غريبة، فلا يكون فيها حجة‏.‏ انتهى‏.‏

والبيت الشاهد من قصيدة للأعشى ميمون، مدح بها هوذة بن علي بن ثمامة الحنفي، ومطلعها‏:‏

أحيّتك تيّاً أم تركت بدائك *** وكانت قتولاً للرجال كذلكا

وأقصرت عن ذكرى البطالة والصب *** وكان سفيهاً ضلّة من ضلالكا

وما كان إلا الحين يوم لقيته *** وقطع جديد حبلها من حبالكا

وقامت تريني بعد ما نام صحبتي *** بياض ثناياها وأسود حالكا

ثم وصف الفقر والفاقة في أبيات‏.‏‏.‏ إلى أن قال‏:‏

إلى هوذة الوهّاب أهديث مدحتي *** أرجّي نوالاً فاضلاً من عطائكا

تجانف عن جوّ اليمامة ناقتي *** وما عمدت من أهلها لسوائكا

ألمّت بأقوام فعافت حياضهم *** قلوصي وكان الشرب فيها بمائكا

فلما أتت آطام جوّ وأهله *** أنيخت فألقت رحلها بفنائكا

سمعت برحب الباع والجود والندى *** فألقيت دلوي فاستقت برشائكا

وما ذاك إلا أن كفيك بالندى *** يجودان بالإعطاء قبل سؤالكا

فتىً يحمل الأعباء لو كان غيره *** من الناس لم ينهض بها متماسكا

وأنت الذي عودتني أن تريشني *** وانت الذي آويتني في ظلالكا

وإنك فيما نابني بي مولع *** بخير وإني مولع بثنائكا

وجدت عليّاً بانياً فورثته *** وطلقاً وشيبان الجواد ومالكا

ولم يسع في العلياء سعيك ماجد *** ولا ذو إناً في الحيّ مثل إنائكا

وفي كل عام أنت جاشم رحلة *** تشدّ لأقصاها عزيم عزائكا

مورّثة مالاً وفي المجد رفعة *** لما ضاع فيها من قروء نسائكا

قوله‏:‏ أحيّتك، الهمزة للآستفهام، والتحية معروفة‏.‏ وتيّاً بفتح المثناة الفوقية وتشديد المثناة التحتية، الظاهر أنه اسم محبوبته وقد تغزل بها في أكثر قصائده، كقوله‏:‏

تذكرت تياً وأترابه *** وقد أخلفت بعض ميعادها

وقوله‏:‏

عرفت اليوم من تيّا مقام *** بجوّ وعرفت لها خياما

وقيل‏:‏ إنها اسم إشارة بمعنى هذه‏.‏ وأراد بالأسود الحالك شعرها‏.‏

وقوله‏:‏ تجانف عن جوّ‏.‏‏.‏ الخ أصله تتجانف بتاءين من الجنف وهو الميل‏.‏ وجوّ بفتح الجيم وتشديد الواو‏:‏ اسم اليمامة في الجاهلية، حتى سماها الحميري لما قتل المرأة التي تسمى اليمامة باسمها؛ وقال الملك الحميري‏:‏

وقلنا فسموها اليمامة باسمه *** وسرنا وقلنا لا نريد إقامه

وقال الأعشى في مدح الحنفيّ أيضاً، وهو صاحب اليمامة، ويذمّ الحارث بن وعلة‏:‏

وإن امرأً قد زرته بعد هذه *** بجوّ لخير منك نفساً ووالدا

كذا في معجم ما استعجم للبكري‏.‏ وروي‏:‏ عن جلّ اليمامة وفي الروايتين حذف مضاف، فالأول عن أهل جو اليمامة، والثاني عن جلّ أهل اليمامة، أي‏:‏ معظم أهلها‏.‏ يعني‏:‏ أنه لم يقصد سواه من أهل اليمامة‏.‏ وضمير أهلها لليمامة‏.‏ وجعل الميل عن غير هوذة إلى هوذة فعل الناقة، وإنما هو فعل صاحبها‏.‏ واللام في لسوائكا بمعنى إلى غيرك‏.‏

قال صاحب التصحيف‏:‏ قال أبو عبيد‏:‏ لا يكون سواء وسوى اسما، هو صفة، وقال في قوله‏:‏

وما قصدت من أهلها لسوائكا

قال الزجّاج‏:‏ سواء زيد وعمرو في معنى ذوا سواء، وسواء عنده مصدرن وإنما هو لمكان سوائكا‏.‏ انتهى‏.‏

وقال ابن ولاد في المقصور والممدود‏:‏ سوى بمعنى غير مكسور الأول مقصور، يكتب بالياء؛ وقد يفتح أوله فيمد، ومعناه معنى المكسور قال الأعشى بفتح ومد‏:‏

وما قصدت من أهلها لسوائكا

وقوله‏:‏ وجدت علياً بانياً الخ، علي أبوه، وطلق وشيبان ومالك أعمامه‏.‏ وقوله‏:‏ لما ضاع فيها من قروء نسائكا، يعني الغزوة التي شغلته عن وطء نسائه في الطهر‏.‏

وهذه القصيدة تشبه أشعار المحدثين والمولّدين في الرقة والانسجام؛ ولهذا أوردنا أكثرها‏.‏

وترجمة الأعشى تقدمت في الشاهد الثالث والعشرين من أوائل الكتاب‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد الثالث والأربعون بعد المائتين

خالط من سلمى خياشيم وفا

على ان أصله وفاها فحذف المضاف إليه‏.‏

قال أبو علي في إيضاح الشعر‏:‏ اعلم أن أبا الحسن الأخفش قال في قول الراجز‏:‏

خالط من سلمى خياشيم وفا

إن التقدير‏:‏ وفاها، فحذف المضاف إليه‏.‏ وكذلك قال في قوله‏:‏ ليس غير‏:‏ إن التقدير ليس غيره‏.‏ وحكى بعضهم أن من الناس من قد لحّنه‏.‏ والتلحين ليس بشيء؛ لاحتماله ما قال أبو الحسن، وفيه قول آخر‏:‏ انه جاء على قول من لم يبدل من التنوين الألف في النصب ولكن جعل النصب في عدم إبدال التنوين ألفاً كالجر والرفع، كما جعلوا النصب في نحو‏:‏

كفى بالنأي من أسماء كاف

مثل الجر والرفع‏.‏ وكذلك جعل النصب مثلهما في نحو قوله‏:‏

وآخذ من كل حي عصم

أي‏:‏ عصماً‏.‏ وهذه اللغة، وإن لم يحكها سيبويه، فقد حكاها أبو الحسن وغيره‏.‏ ووجهها من القياس ما أعلمتك‏.‏ فإذا جاز أن يقدر على هذه اللغة قدرناه عليها، وكانت الألف في الكلمة، التي هي بدل من عين الفعل؛ وجاز ذلك لأنه ليس يبقى الاسم المتمكن على حرف‏.‏ ألا ترى أن الألف منقلبة عن العين، فصار في ذلك كالأسماء التي لما أمن إلحاق التنوين بها جاز أن تبقى على حرفين أحدهما حرف لين‏:‏ كقوله‏:‏ ذو - التي في معنى الذي وذا، وتا، ونحو ذلك مما جاء على حرفين أحدهما حرف لين، لما لم يكن مما يلحقه التنوين‏.‏

فكذلك خياشيم وفا لا يمتنع أن يكون على حرفين أحدهما حرف لين، على الوجه الذي ذكرناه‏.‏ انتهى‏.‏

وبسط هذا الكلام في التذكرة القصريّة، وأطال وأطاب في المسائل العسكرية‏.‏

وهذا البيت من أرجوزة للعجّاج، مطلعها‏:‏

يا صاح ما هاج العيون الذرف *** من طلل أمسى يحاكي المصحفا

رسومه والمذهب المزخرف *** جرّت عليه الريح حتى قد عفا

والبيت الأول من شواهد شروح الألفية في التنوين، إلى أن قال‏:‏

خالط من سلمى خياشيم وف *** صهباء خرطوماً عقاراً قرقفا

والخياشيم‏:‏ جمع خيشوم، وهو أقصى الأنف‏.‏ والصهباء‏:‏ فاعل خالط، وهي الخمر، سميت به للونها وهو الصهبة وهي الشقرة‏.‏ والخرطوم‏:‏ السلافة؛ في الأساس‏:‏ وشرب الخرطوم، أي‏:‏ السلافة لأنها أول ما ينعصر‏.‏ والعقار، بالضم‏:‏ الخمر‏.‏ سميت بذلك لأنها عاقرت العقل على قول‏.‏ يصف طيب نكهتها كأن فيها خمراً‏.‏ وإنما جمع الخياشيم باعتبار أجزائه وأطرافه‏.‏ وحيث كان الأصل فاها، فحذف المضاف إليه، ينبغي أن يكون خياشيم كذلك أيضاً، أي‏:‏ خياشيمها وفاها‏.‏

وترجمة العجاج تقدمت في الشاهد الحادي والعشرين من أوائل الكتاب‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد الرابع والأربعون بعد المائتين

ولا سيما يوماً بدارة جلجل

على أنه روي بنصب يوم بعد لا سيما‏.‏

وقد ذكر الشارح المحقق ما قيل في توجيهه‏.‏ وهذا عجز، وصدره‏:‏

ألا رب يوم صالح لك منهما

وسي بمعنى مثل، وأصله سيو وقال ابن جني‏:‏ سوى من سويته فتسوى؛ فلما اجتمع حرفا العلة وسبق أحدهما بالسكون، قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء‏.‏

ويجوز في الاسم الذي بعدها الجر والرفع مطلقاً، والنصب أيضاً إذا كان نكرة؛ وقد روي بهن في قوله‏:‏ ولا سيما يوم‏.‏ والجر أرجحها وهو على الإضافة؛ وما إما زائدة، وإما نكرة غير موصوفة ويوم بدل منها‏.‏ والرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف والجملة صلة ما إن كانت موصولة، وصفتها إن كانت نكرةً موصوفة، تقديره‏:‏ لا مثل الذي هو يوم، ولا مثل شيء هو يوم‏.‏

وسي في الوجهين نكرة، لأنه بمعنى مثل فلا يتعرف في الإضافة، لتوغله في الإبهام؛ ولهذا جاز دخول لا التي لنفي الجنس‏.‏ وضعف الرفع بحذف العائد المرفوع مع عدم الطول في نحو لا سيما زيد - وأما في البيت فقد طالت الصلة والصفة بالجار والمجرور بعد يوم فإنه صفته - وبإطلاق ما على من يعقل‏.‏ كذا قال ابن هشام في المغني وفيه‏:‏ أنه لا مانع من الإطلاق، قال تعالى‏:‏ ‏{‏والسماء وما بناها‏.‏ والأرض وما طحاها‏.‏ ونفس وما سواها ولهذا لم يتعرض له الشارح المحقق‏.‏

وعلى الجر والرفع ففتحة سي إعراب لأنه مضاف، فيكون اسم لا والخبر محذوف أي‏:‏ لنا‏.‏ قال ابن هشام‏:‏ وعند الأخفش ما خبر للا‏.‏ ويلزمه قطع سي عن الإضافة من غير عوض‏.‏ قيل‏:‏ وكون خبر لا معرفةً‏.‏ وجوابه أنه يقدر ما نكرة موصوفة، ويكون قد رجع إلى قول سيبويه في لا رجل قائم‏:‏ إن ارتفاع الخبر بما كان مرتفعاً به، لا بلا النافية‏.‏

وفي الهتيات للفارسي‏:‏ إذا قيل‏:‏ قاموا لا سيما زيد، فلا مهملة وسي حال، أي‏:‏ قاموا غير مماثلين لزيد في القيام‏.‏ ويرده صحة دخول الواو، وهي لا تدخل على الحال المفردة وعدم تكرار لا وذلك واجب مع الحال المفردة انتهى‏.‏

وأما من نصب فقد تكلفوا لتوجيهه‏:‏ فقيل‏:‏ إنه تمييز ثم قيل‏:‏ ما نكرة تامة مخفوضة بالإضافة وكأنه قيل‏:‏ ولا مثل شيء؛ ثم جيء بالتمييز‏.‏ ففتحة سي إعراب أيضاً‏.‏ وقال الفارسي‏:‏ ما حرف كاف لسي عن اللإضافة، فأشبهت اللإضافة في‏:‏ على التمرة مثلها زبداً‏.‏ ففتحتها على هذا بناء‏.‏ وقيل‏:‏ منصوب بإضمار فعل، أي‏:‏ أعني يوماً‏.‏ وقد بينه الشارح المحقق‏.‏ وقيل‏:‏ على الاستثناء‏.‏ وقيل منصوب على الظرف ويكون صلةً لها‏.‏ كذا في شرح اللب‏.‏

وأما انتصاب المعرفة نحو‏:‏ ولا سيما زيداً، فقد منعه الجمهور، وقال ابن الدهان‏:‏ لا أعرف له وجهاً‏.‏ وقد وجهه الشارح المحقق بأنه تمييز‏.‏ وقال ابن هشام‏:‏ ووجهه بعضهم بأن ما كافة، وأن لا تنزلت منزلة إلا في الاستثناء ورد بأن المستثنى مخرج، وما بعدها داخل من باب الأولى‏.‏ وأجيب بأنه مخرج مما أفهمه الكلام السابق من مساواته لما قبلها‏.‏ وعلى هذا فيكون استثناء منقطعاً انتهى‏.‏

وأورد أيضاً على جعلها للاستثناء، بأنها لو كانت بمعنى إلا لما جاز دخول الواو العاطفة عليه كما لا يجوز دخولعا على إلا واجب بان المعنى لا سيما، خصوصاً؛ فكأنه قال‏:‏ وخصوصاً؛ فكأنه قال‏:‏ أي‏:‏ فأخص هذا اليوم من سائر الأيام خصوصاً، لكونه أبلغ في الخطوة منها؛ فهو في المعنى مقدر بفعل ينصبه‏.‏ وإنما أطلق عليه أنه بمنزلة إلا نظراً إلى المعنى، لأن الاستثناء أيضاً تخصيص‏.‏ وإنما أدخل الواو نظراً إلى المعنى أنه مقدر بجملة، أي‏:‏ وأخص هذا اليوم لأنه ليس مثل الأيام الصالحة بل هو أفضل‏.‏ كذا في شرح اللباب‏.‏

وقد جعلها الشارح واو الاعتراض، وبين المعنى، ثم ذكر ان قولهم‏:‏ ولا سيما، قد تحذف واوها وقد تخفف ياؤها، كقوله‏:‏

فه بالعقود وبالأيمان لا سيم *** عقد وفاء من أعظم القرب

لكن قال ثعلب‏:‏ من استعمله على خلاف ما جاء في قوله‏:‏ ولا سيما يوم بدارة جلجل، فهو مخطئ‏.‏

‏؟‏تتمة‏:‏ في شرح التسهيل‏:‏ قد يقع بعد ما ظرف نحو‏:‏ يعجبني الاعتكاف لا سيما عند الكعبة، قال‏:‏

يسرّ الكريم الحمد لا سيما لدى *** شهادة من في خيره يتقلّب

وقد تقع جملة فعلية كقوله‏:‏

فق الناس ف يالخير لا سيم *** ينيلك من ذي الجلال الرضا

والغالب وصلها بالاسمية‏.‏ وقال المرادي‏:‏ إنه وقع بعدها الجملة الشرطية؛ فما كافة بناء على أن الشرطية لا تكون صلة للموصول‏.‏ وفيه كلام في شروح الكشاف‏.‏

وهذا كما حكى الجوهري‏:‏ فلان يكرمني لا سيما إن زرته‏.‏ ولا يصح جعل ما زائدة، لأنه يلزم إضافة سيّ إلى الجملة الشرطية؛ ولا يضاف إلى الجمل إلا أسماء الزمان‏.‏

وقد يقع بعدها جملة مقترنة بالواو فعلية كما وقع في عبارة الكشاف‏:‏ لا سيما وقد كان كذا؛ واسمية كما في قول صاحب المواقف‏:‏ لا سيما والهمم قاصرة‏.‏

وفي شرح التسهيل‏:‏ إنه تركيب غير عربي، وكلام الشارح يخالفه‏.‏ وفي شرح المواقف أن قوله‏:‏ والهمم قاصرة، مؤوّل بالظرف نظراً إلى قرب الحال من ظرف الزمان، فصحّ وقوعها صلة لما‏.‏ وهذا من قبيل الميل إلى المعنى والإعراض عن ظاهر اللفظ، أي‏:‏ لا مثل انتفائه في زمان قصور الهمم‏.‏ وهذا لا يرضاه نحويّ؛ كيف والجملة الحالية في محل النصب، والصلة لا محل لها‏؟‏‏؟‏‏!‏‏.‏

وهذا البيت من معلقة امرئ القيس المشهورة‏.‏ وهذه أبيات منها‏:‏

وإن شفائي عبرة لو سفحته *** فهل عند رسم دارس من معوّل

كدأبك من أم الحويرث قبله *** وجارتها أمّ الرباب بمأسل

إذا قامتا تضوّع المسك منهم *** نسيم الصبا جاءت بريّا القرنفل

فاضت دموع العين مني صبابة *** على النحر حتى بلّ دمعي محملي

ألا ربّ يوم صالح لك منهم *** ولا سيما يوماً بدارة جلجل

ويوم عقرت للعذارى مطيتي *** فيا عجباً لرحلها المتحمل

فظلّ العذارى يرتمين بلحمه *** وشحم كهدّاب الدمقس المفتل

ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة *** فقالت‏:‏ لك الويلات‏!‏ إنك مرجلي

تقول وقد مال الغبيط بنا معاً‏:‏ *** عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل

فقلت لها‏:‏ سيري وأرخي زمامه *** ولاتبعديني من جناك المعلّل

البيتان الأولان قد تقدم شرحهما في باب الحال في الشاهد التاسع والتسعين بعد المائة‏.‏

وقوله‏:‏ إذا قامتا الخ، ضمير المثنى لأم الحويرث وأم الرباب‏.‏ وتضوع‏:‏ فاح متفرقاً‏.‏ والمسك يذكّر ويؤنث، وكذلك العنبر؛ ومن أنّثه ذهب به إلى معنى الريح، ورواه تضوع المسك على أنه فعل مضارع أصله تتضوع بتاءين‏.‏ ونصب نسيم الصبا لأنه قام مقام نعت لمصدر محذوف؛ قال ابن هشام في المغني، في بيان كيفية التقدير‏:‏ إنه إذا استدعي الكلام تقدير موصوف وصفة مضافة، مثلاً، فلا يقدر أن ذلك حذف دفعة واحدة، بل على التدريج، نحو‏:‏ تضوع المسك منهما نسيم الصبا، أي‏:‏ تضوعاً مثل تضوع نسيم الصبا أي تضوعا مثل تضوع نسيم الصبا‏.‏ انتهى‏.‏

وأورد صاحب تحرير التحبير هذا البيت في باب الاتساع، وهو أن يأتي الشاعر ببيت يتسع فيه التأويل على قدر قوى الناظر فيه، وبحسب ما تحتمله ألفاظه‏:‏ فإن هذا البيت اتسع النقاد في تأويله‏:‏ فمن قائل‏:‏ تضوع المسك منهما تضوع نسيم الصبا - وهذه هو الوجه عندي - ومن قائل‏:‏ تضوع المسك منهما، بفتح الميم يعني الجلد، بنسيم الصبا‏.‏ انتهى‏.‏

والريّا‏:‏ الرائحة الطيبة لا غير‏.‏ وجملة جاءت الخ، بتقدير قد، حال من الصبا‏.‏ ونسيم الصبا هبوبها بضعف‏.‏ قال الدينوري في كتاب النبات‏:‏ القرنفل أجود ما يؤتى به من بلاد الصين‏.‏ وقد كثر مجيء الشعر بوصف طيبه‏.‏‏.‏ وأنشد هذاالبيت، ثم قال‏:‏ وقالوا‏:‏ قد أخطأ امرؤ القيس، فإنه لا يقال تضوع المسك حتى كأنه ريّا القرنفل، إنما كان ينبغي أن يقول‏:‏ تضوع القرنفل حتى كأنه ريا المسك‏.‏ انتهى‏.‏

وقد تبعه الإمام الباقلاني في كتاب إعجاز القرآن قال‏:‏ وفيه خلل، لأنه بعد أن شبّه عرفها بالمسك شبّه ذلك بنسيم القرنفل‏.‏ وذكر ذلك بعد المسك نقص‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ إذا قامتا تضوّع المسك منهما‏.‏ ولو أراد أن يجوّد أفاد أن بهما طيباً على كل حال‏.‏ فأما في حال القيام فقط، فذلك تقصير‏.‏ وقوله‏:‏ نسيم الصبا، في تقدير المنقطع عن المصراع الأول‏.‏ انتهى‏.‏

والعيبان الأخيران ليسا كما زعمه، فتأمل‏.‏

وقوله‏:‏ ففاضت دموع العين الخ، فاضت‏:‏ سالت‏.‏ والصبابة‏:‏ رقة الشوق؛ ونصبها على أنها مفعول له‏.‏ والمحمل، بكسر الأول‏:‏ السير الذي يحمل به السيف، قال شراح المعلقة‏:‏ ومما يسأل عنه هنا أن يقال‏:‏ كيف يبلّ الدمع محمله وإنما المحمل علىعاتقه‏؟‏ فيقال‏:‏ قد يكون منه على صدره فإذا بكى وجرى عليه الدمع ابتلّ - وقال الإمام الباقلاني‏:‏ قوله‏:‏ مني، استعانة ضعيفة، عند المتأخرين، في الصنعة؛ وهو حشو غير مليح ولا بديع‏.‏

وقوله‏:‏ على النحر، حشو آخر لأن قوله‏:‏ بلّ دمعي محملي، يغني عنه‏.‏ ثم قوله‏:‏ حتى بلّ دمعي الخ، إعادة ذكر الدمع حشو آخر، وكان يكفيه أن يقول‏:‏ حتى بلّت محملي‏.‏ فاحتاج لإقامة الوزن إلى هذا كله‏.‏ ثم تقديره أنه قد أفرط في إفاضة الدمع حتى بلّ محمله تفريط منه وتقصير، ولو كان أبدع لكان يقول‏:‏ حتى بلّ دمعي مغانيهم وعراصهم‏.‏ ويشبّه أن يكون غرضه إقامة الوزن والقافية، لأن الدمع يبعد أن يبلّ المحمل، وإنما يقطر من الواقف والقاعد، على الأرض‏.‏ وعلى الذيل‏.‏ وإن بلّه فلقلته وأنه لا يقطر‏.‏ وأنت تجد في شعر المتأخرين ما هو أحسن من هذا البيت انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ ألا ربّ يوم صالح‏.‏‏.‏ الخ ربّ هنا للتكثير؛ ومنهما أي‏:‏ من أمّ الحويرث وأمّ الرباب‏.‏ وروي‏:‏

ألا ربّ يوم لك منهن صالح

أي‏:‏ من النساء وفيه الكف وهو حذف النون من مفاعيلن‏.‏ والمعنى‏:‏ ألا رب يوم لك منهن سرور وغبطة بوصال النساء وعيش ناعم معهن‏.‏ وقوله‏:‏ ولا سيما الخ، أي‏:‏ وليس يوم من تلك الأيام مثل يوم دارة جلجل، فإن هذا اليوم كان أحسن الأيام وأفضلها‏.‏ يريد‏:‏ التعجب من فضل هذا اليوم‏.‏ ودارة جلجل، بضم الجيمين‏:‏ اسم غدير؛ قال البكري في معجم ما استعجم‏:‏ قال أبو عبيدة‏:‏ دارة جلجل موضع بديار كندة‏.‏ وقال أبو الفرج‏:‏ قال الكلبي‏:‏ هو عند عين كندة‏.‏ انتهى‏.‏

قال الإمام الباقلاّني‏:‏ وهذا البيت خال من المحاسن والبديع، خاو من المعنى؛ وليس له لفظ يروق، ولا معنى يروع؛ من طباع السوقة؛ فلا يرعك تهويله باسم موضع غريب‏.‏

وقوله‏:‏ ويوم عقرت الخ، يوم معطوف على يوم في قوله‏:‏ ولا سيما يوم، لكنه بني على الفتحة لإضافته إلى مبني؛ وهو منصوب بتقدير‏:‏ اذكر‏.‏ والعقر‏:‏ الضرب بالسيف على قوائم البعير؛ وربما قيل عقره‏:‏ إذا نحره‏.‏ والعذارى‏:‏ البنات الأبكار‏.‏ والرحل‏:‏ كل شيء يعدّ للرحيل‏:‏ من وعاء للمتاع، ومركب للبعير، وحلس ورسن‏.‏ والمتحمّل‏:‏ اسم مفعول، أي‏:‏ المحمول‏.‏

وأورد ابن هشام هذا البيت في المغني على أن لام للعذارى للتعليل‏.‏ وقوله‏:‏ فيا عجباً، الألف بدل من الياء فإنها تبدل في النداء إليها جوازاً‏.‏ ويقال‏:‏ كيف يجوز أن ينادى العجب وهو مما لا يجيب ولا يفهم‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن العرب إذا أرادت أن تعظم أمر الخبر جعلته نداء‏.‏

قال سيبويه‏:‏ إذا قلت يا عجباً كأنك قلت‏:‏ تعال يا عجب فإن هذا من إبانك‏.‏ فهذا أبلغ من قولك تعجبت‏.‏ والمعنى‏:‏ انتبهوا للعجب كذا في شروح المعلقة‏.‏

وقال الإمام الباقلاّني‏:‏ قال بعض الأدباء‏:‏ قوله يا عجبا، يعجّبهم من سفهه في سبابه من نحره ناقته لهنّ‏.‏ وإنما أراد ألا يكون الكلام من هذا المصراع منقطعاً عن الأول، وأراد أن يكون الكلام ملائماً له‏.‏ وهذا الذي ذكره بعيد، وهو منقطع عن الأول؛ وظاهر أنه يتعجب من تحمّل العذارى رحله‏.‏ وليس في هذا تعجّب كبير، ولا في نحر الناقة لهن تعجب‏.‏ وإن كان يعني به أنهن حملن رحله، وأن بعضهن حملته، فعبر عن نفسه برحله؛ فهذا قليلاً يشبه أن يكون عجباً‏.‏ لكن الكلام لا يدلّ عليه‏.‏ ولو سلم البيت من العيب لم يكن فيه شيء غريب، ولا معنى بديع، أكثر من سفاهته، مع قلة معناه وتقارب أمره؛ ومشاكلته طبع المتأخرين‏.‏ ومن أول القصيدة لم يمرّ له بيت رائع، وكلام رائق‏.‏

وقوله‏:‏ فظل العذارى الخ، يرتمين‏:‏ يناول بعضهن بعضاً‏.‏ والهدّاب، بالضم والتشديد، هو الهدب وهو طرف الثوب الذي لم يتم نسجه‏.‏ والمقس‏:‏ الحرير الأبيض ويقال له القز‏.‏

قال الإمام الباقلاني‏:‏ هذا البيت يعدونه حسناً، ويعدون التشبيه مليحاً واقعاً‏.‏ وفيه شيء‏:‏ وذلك انه عرّف اللحم ونكّر الشحم، فلا يعلم أنه وصف شحمها، وذكر تشبيه أحدهما بشيء واقع، وعجز عن تشبيه القسمة الأولىفمرّت مرسلة؛ وهذا نقص في الصنعة وعجز عن إعطاء الكلام حقه‏.‏ وفيه شيء آخر من جهة المعنى‏:‏ وهو أنه وصف طعامه لضيوفه بالجودة؛ وهذا قد يعاب، وقد يقال‏:‏ إن العرب تفتخر بذلك ولا تراه عيباً، وإنما الفرس هم الذين يرون هذا عيباً شنيعاً‏.‏ وأما تشبيه الشحم بالدمقس فشيء يقع للعامة ويجري على ألسنتهم، فليس بشيء قد سبق إليه‏.‏ وإنما زاد المفتل للقافية، وهذا مفيد‏.‏

ومع ذلك فلست أعلم العامة تذكر هذه الزيادة‏.‏ وفيه شيء آخر‏:‏ وهو أن تبجحه بما أطعم الأحباب مذموم، وإن سوغ التبجح بما أطعم الأضياف؛ إلا أن يورد الكلام مورد المجون، على طرائق أبي نواس في المزاح والمداعبة‏.‏

وقوله‏:‏ ويوم دخلت الخ، هو معطوف على يوم عقرت‏.‏ والخدر، بالكسر‏:‏ الهودج هنا‏.‏ وخدر عنيزة بدل منه‏.‏ وعنيزة بالتصغير‏:‏ لقب ابنة عمه فاطمة‏.‏ وفيه ردّ على من زعم أنه لم يسمع تلقيب الإناث‏.‏ وأنشد ابن هشام هذا البيت في بحث النون، من المغني على ان التنوين اللاحق لعنيزة تنوين الضرورة، وهو التنوين اللاحق لما لا ينصرف‏.‏

وقوله‏:‏ مرجلي‏:‏ اسم فاعل من أرجلته إذا صيّرته راجلاً؛ ورجل الرجل يرجل، من باب علم‏:‏ إذا صار راجلاً‏.‏ وقوله‏:‏ لك الويلات، فيه قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ ان يكون دعاء منها عليه إذ كانت تخاف عليه أن يعقر بعيرها‏.‏ والثاني‏:‏ أن يكون دعاء منها له على الحقيقة، كما تقول العرب للرجل إذا رمى فأجاد‏:‏ قاتله الله ما أرماه وحقيقة مثل هذا أنه يجري مجرى المدح والثناء‏.‏

وقال الإمام الباقلاني‏:‏ دخلت الخدر خدر عميزة، ذكره تكريراً لإقامة الوزن لا فائدة فيه غيره، ولا ملاحة ولا رونق‏.‏ وقوله‏:‏ فقالت لك الخ، الكلام مؤنث من كلام النساء، نقله من جهته إلى شعره؛ وليس فيه غير هذا‏.‏ انتهى‏.‏

وطعنه الأول ليس بصحيح، لأنه من باب الإبهام والتفسير؛ وهو عندهم من محاسن الكلام‏.‏

وقوله‏:‏ تقول وقد مال الخ، الغبيط، بفتح المعجمة‏:‏ الهودج بعينه، وقيل‏:‏ قتب الهودج، وقيل‏:‏ مركب من مراكب النساء‏.‏ وعقرت هنا بمعنى جرحت ظهره - قال الإمام الباقلاني‏:‏ كرر قوله سابقاً بقوله‏:‏ تقول وقد مال الخ، ولا فائدة فيه غير تقدير الوزن؛ وإلا فحكاية قولها الأول كاف‏.‏ وهو في النظم قبيح، لأنه ذكر مرة فقالت ومرة تقول، في معنى واحد وفصل خفيف‏.‏ وفي المصراع الثاني أيضاً تأنيث من كلامهن‏.‏ انتهى‏.‏

طعنه الأول غير وارد، لأنه من باب الإطناب، بسطه ثانياً للتلذذ والإيضاح‏.‏ وقوله ثانياً تقول، غير معيب، لأنه من حكاية الحال الماضية وقد عدّ حسناً‏.‏

ثم قال الباقلاني‏:‏ وذكر أبو عبيدة أنه قال‏:‏ عقرت بعيري ولم يقل ناقتي، لأنهم يحملون النساء على ذكور الإبل لأنها أقوى‏.‏ وفيه نظر؛ لأن الأظهر أن البعير اسم للذكر والأنثى‏.‏ واحتاج إلى ذكر البعير لإقامة الوزن‏.‏

وقوله‏:‏ فقلت لها سيري الخ، جناها‏:‏ ما اجتنى منها من القبل‏.‏ والمعلل‏:‏ الملهى الذي يعلله ويتشفى به‏.‏ وروي بفتح اللام، أي‏:‏ الذي علل بالطيب أي طيّب مرة بعد مرة، من العلل بفتحتين وهو الشرب الثاني‏.‏ ومعنى البيت‏:‏ أنه تهاون بأمر الجمل في حاجته، فأمرها أن تخلّي زمامه ولا تبالي بما أصابه‏.‏ قال الباقلاني‏:‏ هذا البيت قريب النسج، ليس له معنى بديع ولا لفظ شريف، كأنه من عبارات المنحطين في الصنعة‏.‏

والمراد باليوم في هذه المواضع مطلق الوقت والزمان، وإلا فجميع هذه الأمور قد صدرت في يوم واحد، كما يعرف من خبر يوم دارة جلجل وقد رواه ابن الأنباري في شرح المعلقة قال‏:‏ كان من حديثه على ما حدّث ابن رألان عن أبي شفقل، راوية أبي فراس همام بن غالب الفرزدق أنه قال‏:‏ لم أر أروى من الفرزدق لأخبار امرئ القيس وأشعاره‏!‏ وخرجنا يوماً إلى المربد بعقب طشّ قد وقع، واتصل به خبر نسوة أشراف قد خرجن إلى متنزه لهن؛ قال‏:‏ سر بنا؛ حتى قرب من مجتمعهن؛ فخلفني وصار إليهن؛ فلما رأينه قلن‏:‏ قد علمنا أنا لن نفوتك‏.‏

فلم يزل يومه الأطول يحدثهن ويفاكههن وينشدهن إلى ان ولّى النهار؛ ثم انصرف إليّ فقال‏:‏ سر بنا‏.‏ فلم أر يوما قط أشبه بيوم دارة جلجل من يومنا هذا‏!‏ ثم أنشأ يحدّث حديث يوم دارة جلجل‏.‏ فقال‏:‏ حدثني الثقة أن حي امرئ القيس تحملوا - وهو يومئذ شاب حديث السن، يهوى ابنة عم له، يقال لها‏:‏ فاطمة، ويكنة عنها بعنيزة - وتخلف النساء وفيهن فاطمة، وارتحل امرؤ القيس لا يرى الحي مسيره، إلى أن نأى عن الحي فأخفى شخصه بقرب غدير يعرف بدارة جلجل، وقال لمن كان معه‏:‏ سيمرّ النساء بالغدير، فلا بد أن يتبردن فيه‏.‏

وأمعن الحي في المسير وارتحل النساء بعدهم، فمررن على الغدير، ولا يدرين أن وراءهن أحداً، فنزلن وعند الغدير شجرة، فأنخن إبلهن إلى تلك الشجرة، ونزعن ثيابهن فدخلن الغدير؛ وجاء امرؤ القيس فأخذ ثيابهن وقال‏:‏ لا تأخذ امراة منكن ثيابها حتى تخرج كما هي فناشدنه الله وطلبن إليه، حتى طال يومهن وخشين أن يفوتهن المنزل، فجعلن يخرجن واحدة واحدة، حتى بلغ إلى فاطمة فرآها واستمتع بالنظر إليها؛ ثم قلن له‏:‏ قد أتعبتنا فاجلس‏!‏ فجلس ينشدهن ويحدثهن ويشرب من شراب معه؛ فقالت إحداهن‏:‏ أطعمنا لحماً‏.‏ فقام إلى مطيّته فنحرها وأطعمهن من لحمها، وشرب حتى انتشى‏.‏ حتى إذا أرادوا الرواح قالت امرأة منهن‏:‏ أتدعن امرأ القيس يهلك‏!‏ فقالت فاطمة‏:‏ فككن رحله واحملنه معكن وأنا أحمله معي في هودجي؛ ففعلن، فجعل يميل رأسه إليها فيقبلها - وجعل هودجها يميل بها وهي تنادي به وتقول‏:‏ قد عقرت بعيري فانزل‏!‏ - حتى إذا بلغ قريباً من الحي كمن في غمض من الأرض‏.‏ وسار النساء حتى لحقن برحالهن‏.‏ انتهى‏.‏

وروى ابن عبد ربه في العقد الفريد نحواً من هذا، مع بعض مخالفة‏.‏ ونصه‏.‏ قال الفرزدق‏:‏ أصابنا بالبصرة ليلاً مطر جود، فلما أصبحت ركبت بغلتي وسرت إلى المربد، فإذا أنا بآثار دوابّ، فاتبعت الأثر حتى انتهيت إلى بغال عليها رحال موقوفة على غدير، فأسرعت إلى الغدير فإذا فيه نسوة مستنقعات في الماء؛ فقلت‏:‏ لم أر كاليوم أشبه بيوم دارة جلجل؛ وانصرفت مستحيياً، فنادينني‏:‏ يا صاحب البغلة، ارجع نسألك عن شيء‏.‏

فرجعت إليهن فقعدن في الماء إلى حلوقهن ثم قلن‏:‏ بالله لمّ أخبرتنا ما كان من حديث دارة جلجل‏!‏ قلت‏:‏ حدثني جدي - وأنا يومئذ غلام حافظ - أن امرأ القيس كان عاشقاً لابنة عمه فاطمة - ويقال لها عنيزة - وأنه طلبها زماناً فلم يصل إليها، حتى كان يوم الغدير وهو يوم دارة جلجل‏:‏ وذلك أن الحي تحملوا، فتقدم الرجال وتخلف الخدم والثقل؛ فلما رأى ذلك امرؤ القيس تخلف بعد ما سار مع رجال قومه غلوة، فكمن في غامض حتى مر به النساء، وفيهن عنيزة، فلما وردن الغدير قلن‏:‏ لو نزانا فاغتسلنا في هذا الغدير فذهب عنا بعض الكلال‏!‏ فنزلن في الغدير ونحين العبيد، ثم تجرّدن فوقفن فيه؛ فأتاهن امرؤ القيس فأخذ ثيابهن فجمعها وقعد عليها، وقال‏:‏ والله لا أعطي جارية منكن ثوبها - ولو قعدت في الغدير يومها - حتى تخرج متجردة فتأخذ ثوبها‏!‏ فأبين ذلك عليه، حتى تعالى النهار، وخشين أن يقصّرن عن المنزل الذي يردنه، فخرجن جميعاً غير عنيزة فناشدته الله أن يطرح ثوبهان فأبى، فخرجت فنظر إليها مقبلة ومدبرة، وأقبلن عليه فقلن له‏:‏ إنك عذبتنا وحبستنا وأجعتنا‏.‏ قال‏:‏ فإن نحرت لكنّ ناقتي أتأكلن معي‏؟‏ قلن‏:‏ نعم‏!‏ فجرد سيفه فعرقبها ونحرها ثم كشطها، وجمع الخدم حطباً كثيراً فأجّجن ناراً عظيمة، فجعل يقطع أطايبها ويلقي على الجمر، ويأكلن ويأكل معهن، ويشرب من فضلة خمر كانت معه ويغنيهن، وينبذ إلى العبيد من الكباب؛ فلما أرادوا الرحيل قالت إحداهن‏:‏ أنا أحمل طنفسته، وقالت الأخرى‏:‏ أنا أحمل رحله وأنساعه‏.‏

فتقسمن متاعه وزاده وبقيت عنيزةلم تحمل شيئاً، فقال لها‏:‏ يا ابنة الكرام، لا بدّ أن تحمليني معك فإني لا أطيق المشي‏!‏ فحملته على غارب بعيرها، فكان يجنح إليها فيدخل رأسه في خدرها فيقبلها، فإذا امتنعت مال هودجها فتقول‏:‏ عقرت بعيري فانزل‏!‏‏.‏‏.‏ وكان الفرزدق أروى الناس لأخبار امرئ القيس وأشعاره، وذلك أن امرأ القيس رأى من أبيه جفوة فلحق بعمه شرحبيل بن الحارث، وكان مسترضعاً في بني دارم فأقام فيهم‏.‏ وهم رهط الفرزدق‏.‏ انتهى‏.‏

وقد روى أيضاً خبر هذا اليوم أبو زكريا يحيى بن علي الخطيب التبريزي، في شرح هذه المعلقة على وجه مجمل‏.‏

وترجمة امرئ القيس تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد الخامس والأربعون بعد المائتين

فأنت طلاق والطلاق أليّة ثلاثاً ومن يخرق أعق وأظلم

على أن الواو في قوله‏:‏ والطلاق ألية اعتراضية، والجملة اعتراض للتقوية والتسديد بين قوله‏:‏ فأنت طلاق و‏:‏ ثلاثاً‏.‏ وقد ردّه أبو علي كما سيأتي‏.‏

والأليّة‏:‏ اليمين‏.‏ أراد أن الطلاق يلزم المطلق كما يلزم الوفاء بمضمون اليمين‏.‏ والرواية الصحيحة‏:‏ والطلاق عزيمة، ووقع في أكثر النسخ المصراع الأول فقط، اكتفاء بشهرة الشعر‏.‏

وقد نقل السعد كلام الشارح هنا في بحث الجملة الحالية من المطوّل قال الفناري في حاشيته‏:‏ قوله‏:‏ فأنت طالق والطلاق ألية آخره‏:‏ بهاء المرء ينجو من شباك الطوامث‏.‏

الشباك‏:‏ الحبائل‏.‏ والطوامث‏:‏ الحيّض؛ من طمثت المرأة‏:‏ حاضت‏.‏ وفي وقع هذه الجملة متوسطة بين أجزاء كلام واحد،كما هو الظاهر من كلامه، نوع خفاء، إذ الظاهر أن قوله‏:‏ بها المرء الخ، كلام مستقل‏.‏ وقيل‏:‏ آخر المصراع المذكور‏:‏

ثلاثاً ومن يخرق أعق وأظلم

لكن الرواية في هذا البيت عزيمة مكان أليّ‏.‏ ولعل فيه رواية اخرى لم أطلع عليها‏.‏ انتهى‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ هذا الاعتراض على مذهب الزمخشري، فإن الاعتراض عنده ما يساق لنكتة سوى رفع الإبهام‏.‏ ويكون لا محلّ لها‏.‏

وهذا البيت مبني على مسألة فقهية‏.‏ وأوّل من تكلم عليه الإمام محمد بن الحسن، والكسائي، على اختلاف سيذكر‏.‏

ونقل ابن هشام في المغني الجواب وبحث فيه وزاد، ثم تكلم عليه السيد معين الدين الإيجي في رسالة أفردها وزاد على ابن هشام فيما استنبطه‏.‏ وكل منهما لم ير ما كتبه عليه أبو علي الفارسي في المسائل القصرية وقد تنبّه لما قالاه وردّه، فينبغي أن نورد كلام كل منهم على حدة، لكن نقدم ابتداء ذكر السائل والمجيب أولاً فنقول‏:‏ قال أبو علي الفارسي‏:‏ حدثنا الشيخ أبو الحسن الكرخي عن يحيى بن الحريش الرقي قال‏:‏ أرسلني الكسائي إلى محمد بن الحسن، أسأله عن الجواب في هذه الأبيات‏:‏

إن ترفقي يا هند فالرفق أيمن *** وإن تخرقي يا هند فالخرق أشأم

فأنت طلاق والطلاق عزيمة *** ثلاثاً ومن يجني أعق وأظلم

فبيني بها أن كنت غير رفيقة *** فما لامرئ بعد الثلاث مقدم

قا ل‏:‏ فأتيت محمد بن الحسن بالأبيات فقال‏:‏ إن نصب الثلاث فهي ثلاث تطليقات، وإن رفع الثلاث فهي واحدة، كأنه أراد أن يخبر أن عزيمة الطلاق ثلاث‏.‏ قال‏:‏ فرجعت إلى الكسائي فأخبرته بقول محمد، فتعجب من فطنته‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا هو المسطور في كتب الحنفية كالمبسوط وشرح الكنز للزيلعي؛ لكن ذكروا أن رسول الكسائي إلى محمد هو ابن سماعة‏.‏ ولا مخالفة، لجواز أن يكونا ذهبا معاً برسالة الكسائي، وكل منهما حكى الجواب‏.‏

وقال ابن هشام في المغني‏:‏ كتب الرشيد ليلة إلى القاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة يسأله عن قول القائل - وأنشد الأبيات - فقال‏:‏ ماذا يلزمه إذا رفع الثلاث وإذا نصبها‏؟‏ قال أبو يوسف‏:‏ فقلت‏:‏ هذه مسألة نحوية فقهية، ولا آمن الخطأ إن قلت فيها برأيي‏.‏ فأتيت الكسائي وهو في فراشه فسألته، فقال‏:‏ إن رفع ثلاثاً طلقت واحدة لأنه قال أنت طالق، ثم أخبر أن الطلاق التام ثلاث؛ وإن نصبها طلقت ثلاثاً، لأن معناه‏:‏ أنت طالق ثلاثاً، وما بينهما جملة معترضة‏.‏ فكتبت بذلك إلى الرشيد، فأرسل إلي بجوائز فوجّهت بها إلى الكسائي‏.‏ انتهى ملخصاً‏.‏ هذا كلامه‏.‏

وقال السيد معين الدين‏:‏ قد وجدت في كتاب من كتب النحو أن المسألة قد وقعت بين الإمام محمد والكسائي بحضرة الرشيد، فقال الكسائي‏:‏ أنت يا محمد تزعم أن الماهر في علم يمكن أن يستنبط من العلوم، وأنت ماهر في الفقه فاستنبط من هذا البيت‏.‏ فقال‏:‏ في نصب العزيمة ورفع الثلاث طلقة، وفي رفعها ونصب الثلاث ثلاث‏.‏ فقال الكسائي‏:‏ أصبت، والقول ما قلت‏.‏ انتهى‏.‏

والرفق من باب قتل‏:‏ خلاف الخرق والعنف؛ وخرق خرقاً، من باب فرح‏:‏ إذغ عمل شيئاً فلم يرفق فيه؛ فهو أخرق وهي خرقاء، والاسم الخرق بالضم‏.‏ وأيمن وصف بمعنى ذي يمن وبركة، لا أنه أفعل تفضيل‏.‏ وكذلك الأشأم معناه ذو شآمة ونحوسة‏.‏

والعزيمة قال الكرماني في شرح البخاري‏:‏ هي في الأصل عقد القلب على الشيء، استعمل لكل أمر محتوم‏.‏ وفي الاصطلاح‏:‏ ضد الرخصة‏.‏ وفعله من باب ضرب، يقال‏:‏ عزم على الشيء وعزمه عزماً بمعنى عقد ضميره على فعله‏.‏ وقال النووي‏:‏ حقيقة العزم حدوث رأي وخاطر في الذهن لم يكن‏.‏ والعزم والنية متقاربان يقام أحدهما مقام الآخر‏.‏ ويجني مضارع جنى على قومه جناية‏:‏ أذنب ذنباً يؤاخذ به‏.‏ وروى الجماعة‏:‏ ومن يخرق فقال ابن يعيش‏:‏ من شرطية‏.‏

ورد عليه الدماميني بأنه يلزمه حذف الفاء والمبتدأ من جملة الجزاء، والتقدير‏:‏ فهو أعق وأظلم؛ وليس هذا بمتعين لجواز أن تكون موصولة، وتسكين القاف للتخفيف، كقراءة أبي عمرو‏:‏ وما يشعركم‏.‏ بإسكان الراء‏.‏ وأعق خبر من الموصولة، فلا حذف ولا ضرورة ولا قبح‏.‏ انتهى‏.‏

والذي ذكره الجعبري‏:‏ أن وجه الإسكان فيه طلب التخفيف عند اجتماع ثلاث حركات ثقال من نوع واحد ونوعين‏.‏ ويخرق ليس منهما‏.‏ وأما التسكين في قوله‏:‏

فاليوم أشرب غير مستحقب

فقد قيل أنه للضرورة‏.‏‏.‏ وقوله‏:‏ أعق من العقوق وهو ضد البر‏.‏

وقوله‏:‏ فبيني بها الخ، هي أمر من البينونة وهي الفراق؛ وضمير بها للثلاث أي‏:‏ كوني ذات طلاق بائن بهذه التطليقات الثلاث، لكونك غير رفيقة‏.‏ فأن مفتوحة الهمزة مقدر قبلها لام العلة‏.‏ ومقدم‏:‏ مصدر ميمي، أي‏:‏ ليس لأحد تقدم إلى العشرة والألفة بعد إيقاع الثلاث‏.‏ كذا قال الدماميني‏.‏ وأجاز بعضهم أن يكون مقدم بمعنى مهر مقدم، أي‏:‏ ليس له بعد الثلاث مهر يقدمه لمطلقته ثلاثاً، إلا بعد زوج آخر‏.‏ فيكون اسم مفعول‏.‏ هذا كلامه‏.‏

وأما ما بحثه ابن هشام بعد الجواب المذكور فهذا نصه‏:‏ أقول‏:‏ إن الصواب أن كلاً من الرفع والنصب محتمل لوقوع الثلاث ولوقوع الواحدة‏:‏ أما الرفع فلأن أل في الطلاق إما لمجاز الجنس وإما للعهد الذكري، أي‏:‏ وهذا الطلاق المذكور عزيمة ثلاث‏.‏ فعلى العهدية تقع الثلاث، وعلى الجنسية تقع واحدة‏.‏

وأما النصب فلأنه محتمل لأن يكون على المفعول المطلق - وحينئذ يقتضي وقوع الثلاث، إذ المعنى‏:‏ فأنت طالق ثلاثاً، ثم اعترض بينهما بقوله والطلاق عزيمة - ولأن يكون حالاً من الضمير المستتر في عزيمة، وحينئذ لا يلزم وقوع الثلاث، لأن المعنى‏:‏ والطلاق عزيمة إذا كان ثلاثاً، فإنما يقع ما نواه‏.‏ هذا ما يقتضيه اللفظ مع قطع النظر عما بعده‏:‏ فإنه يعين الثلاث‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

وقال الفناري في حاشية المطول‏:‏ قد انتصر جدنا شمس الدين الفناري للكسائي وأبي يوسف حيث قال‏:‏ ولقائل أن يقول‏:‏ إنما لم يعتبر الكسائي وأبو يوسف، حين ارتفاع الثلاث، كون اللام للعهد؛ لأن ثلاث وعزيمة لا يصح أن يكونا خبرين عن الطلاق المعهود، فإن الطلاق رخصة وليس بعزيمة‏.‏ وكذا حين انتصاب الثلاث، لايصح أن يكون ثلاثاً حالاً من ضمير عزيمة، لما قلنا‏.‏ فلم يتعين أيضاً - قال - اللهم إلا أن تحمل العزيمة على المعنى اللغوي‏.‏ والعرف أملك‏.‏ وفيه بحث‏:‏ أما أولاً فلأنه لا دخل في لزوم المحذور المذكور لجعل اللام للعهد، إذ منشؤه عدم اجتماع الثلاث والعزيمة، وهذا الاجتماع لازم على تقدير الحمل على مجاز الجنس؛ اللهم إلا أني يراد الحمل على الجنس المطلق، ويجعل الإخبار بالعزيمة والثلاث بالنظر إلىأنواع الطلاق‏.‏

وأما ثانياً‏:‏ فالأملك في مثله هو العرف العام؛ فالظاهر أن المعنى‏:‏ الطلاق الذي ذكرت ليس بلغو ولا لعب، بل هو معزوم عليه‏.‏ نعم الكلام، على تقدير جعل ثلاثاً حالاً من المستتر في عزيمة، محتمل لوقوع الثلاث، بأن يكون المعنى والطلاق الذي ذكرته إذ كان ثلاثاً‏.‏ فتأمل‏.‏ انتهى‏.‏

ونازعه الدماميني في الأخير فقال‏:‏ الكلام محتمل لوقوع الثلاث على تقدير الحال أيضاً، بأن تجعل أل للعهد الذكري، كما تقدم له في أحد وجهي الرفع‏.‏ كأن قال‏:‏ والطلاق الذي ذكرت معزوم عليه حال كونه ثلاثاً‏.‏ ولا يقدر حينئذ إذاكان، بل إذ كان‏.‏

وأما كلام السيد معين الدين، فإنه قال‏:‏ الشعر يحتما اثني عشروجهاً، لأن اللام إما للجنس وغما للعهد، وعزيمة إما مرفوع وإما منصوب وثلاث إما مرفوع، وإما منصوب على الحال وعلى المفعول المطلق، فخرج من ضرب أربعة في ثلاثة‏:‏ اثنا عشر؛ لكن أربعة منها تركيب باطل‏.‏ أما الثمانية، فعلى تقدير أم اللام للجنس إما أن يكون عزيمة وثلاث مرفوعين، فيلزمه على ما قال ابن هشام واحدة؛ والظاهر أنه يلزمه ثلاث إذ ليس الطلاق عنده إلا عزيمة ثلاث، وطلاقه فرد مما ادعاه‏.‏ وإما أن يكون عزيمة منصوباً وثلاث مرفوعاً، فيلزمه واحدة، وهو أحد وجهي الإمام محمد، وفيه أن ذا الحال مبتدأ‏.‏

وإما أن يكون عزيمة مرفوعاً وثلاث حالاً من المستتر في عزيمة، يلزمه واحدة؛ وهو وجه ثان لابن هشام وللإمام لكن في كلام الإمام إبهام، لأنه يحتمل أن يكون ثلاث مفعولاً مطلقاً، وحينئذ يلزمه ثلاث؛ وإما أن يكون عزيمة مرفوعاً، وثلاث مفعولاً مطلقاً فيلزمه ثلاث؛ وهو ثالث وجوه ابن هشام‏.‏ فهذه وجوه أربعة‏.‏

وعلى تقدير أن اللام للعهد إما أن يكون عزيمة وثلاث مرفوعين، كأنه قال‏:‏ فأنت طلاق، وهذا الطلاق عزيمة ثلاث، فيلزمه ثلاث، وهو رابع وجوه ابن هشام‏.‏ وإما أن يكون عزيمة منصوباً وثلاث مرفوعاً، فيلزمه ثلاث‏.‏ وإما أن يكون عزيمة مرفوعاً وثلاث منصوباً حالاً من المستتر، فيلزمه ثلاث‏.‏ وإما أن يكون عزيمة مرفوعاً وثلاث مفعولاً مطلقاً، فيلزمه ثلاث‏.‏ فهذه أربعة أخرى فتكون ثمانية‏.‏

واما الأربعة التي فسدت لأجل الإعراب فهي‏:‏ بتقدير أن اللام للجنس إما أن يكون عزيمة منصوباً، وثلاث حالاً من المستتر، ومفعولاً مطلقاً‏.‏ وبتقدير أن اللام للعهد إما ان يكون عزيمة منصوباً، وثلاث حالاً من المستتر، ومفعولاً مطلقاً‏.‏ وعلى الوجهين وهو أنه حال، يلزمه واحدة وعلى الوجهين الآخرين يلزمه ثلاث‏.‏ هذا كلامه‏.‏

وقد كتب ابن قاسم العبادي على مواضع من هذ الرسالة، فكتب عند قوله‏:‏ الشعر يحتمل اثني عشر وجهاً‏:‏ لا بد على سائر التقادير في وقوع أصل الطلاق، عند الشافعية من النية، كما هو ظاهر، لأن أنت طلاق من الكنايات عندهم‏.‏

وكتب عند قوله‏:‏ والظاهر أنه يلزمه ثلاث‏:‏ قد يمنع من هذا الظاهر عند الشافعية أن‏:‏ أنت طلاق كناية عندهم، وشرط تأثير الكناية في أصل الوقوع والعدد النية، ولا يقوم مقام النية ما اقترن بالكناية مما يدل على الوقوع والعدة من القرائن؛ ولهذا صرحوا بعدم الوقوع بقوله أنت بائن بينونة محرمة، ولا تحلين لأي أبداً، إذا لم ينو‏.‏ وحينئذ فالقياس في قول الشاعر‏:‏ فأنت طلاق، عدم الوقوع رأساً إن لم ينو‏.‏ فإن نوى الطلاق الثلاث وقع الثلاث، وإن نوى أصل الطلاق فقط، فالقياس وقوع واحدة‏.‏

وقوله‏:‏ والطلاق عزيمة ثلاث، على تقدير رفع عزيمة وثلاث وكون أل في الطلاق للجنس، لا يصلح لتقييد الطلاق الذي أوقعه بالثلاث؛ لأنه إن أراد أن جنس الطلاق ليس إلا الثلاث، فهو غير صحيح، إذ الجنس موجود في الواحدة والثنتين أيضاً؛ وغن أراد أن الجنس قد يكون في الثلاث، فهذا لا يقتضي تقييد هذا الطلاق الواقع بالثلاث؛ فليتأمل‏.‏

وما ذكرناه لا ينافيه قول الروض‏:‏ فإن قال أنت بائن ثلاثاً ونوى الطلاق الثلاث وقعن، أي‏:‏ الثلاث‏.‏ انتهى‏.‏

لأنه قيد البينونة التي نوى بها الطلاق، بالثلاث، وما ذكر لا تقييد فيه، ولا ارتباط فيه للثلاث بالطلاق الذي أوقعه‏.‏ فليتامل‏.‏

وكتب عند قوله‏:‏ وطلاقه فرد مما ادعاه قد يقال‏:‏ ما ادعاه ليس بصحيح بظاهره إذ جنس الطلاق لا ينحصر في الثلاث، فلا يلزم ان يكون طلاقه فرداً من جنس الثلاث؛ نعم إن قصد ذلك بأن قصد طلاقاً من أفراد الثلاث فمسلّم؛ فليتامل‏.‏‏.‏

وكتب عند قوله‏:‏ وفيه أن ذا الحال مبتدأ‏:‏ قد يقال هذا لا يرد، لأن المراد ان هذا التقدير والحمل يقتضي هذا الحكم، وأما أن هذا التقدير ضعيف فشيء آخر لا ينافي ذلك‏.‏‏.‏ وكتب عند قوله‏:‏ وحينئذ يلزمه ثلاث‏:‏ هذا ظاهر إن أريد المفعول المطلق من طالق لا من الطلاق‏.‏

وكتب شيخنا الشهاي الخفاجي، عند بيانه للأربعة التي فسدت لأجل الإعراب‏:‏ وما ادعاه من بطلان الوجوه الأربعة إذا رفع الطلاق ونصب عزيمة وثلاث، على الحالية والمفعولية، غير مسلم، لأنه يجوز أن يكون خبر مبتدأ مقدّر، أي‏:‏ وهذا الطلاق‏.‏ وباب التقدير واسع‏.‏ انتهى‏.‏

هذا ما وقفت عليه مما كتب على هذا الشعر‏.‏ وكلامهم دائر علىان ثلاثاً إما مفعول مطلق لطلاق المنكر والمعرف، وإما حال من الضمير المستتر‏.‏

ومنع الكلّ أبو علي في المسائل القصرية ومنع كونه تمييزاً أيضاً، وعيّن أن يكون ثلاثاً مفعولاً مطلقاً إما لعزيمة ولطلقت محذوفاً، وإما ظرف لعزيمة‏.‏ وحقق أن مفاد البيت الطلاق الثلاث لا غير وهذا كلامه‏:‏ قوله‏:‏

فأنت طلاق والطلاق عزيمة *** ثلاث

لا يخلو إذا نصبت ثلاثاً أن يكون متعلقاً بطلاق وغيره، فلا يجوز أن يكون متعلقاً بطلاق؛ لأنه إن كان متعلقاً به لم يخل من أن يكون طلاق الأول والثاني، فلا يجوز أن يكون متعلقاً بطلاق الأول، لأن الطلاق مصدر فلا يجوز ان يتعلق به شيء بعد العطف عليه، ولا يجوز ان ينصب ثلاث بطلاق الثاني؛ لأنه قد أخبر عنه للفصل‏.‏

فإذا بطل الوجهان جميعاً، ثبت أنه متعلق بغيره‏:‏ فيجوز ان يكون متعلقاً بعزيمة، أي‏:‏ أعزم ثلاثاً؛ ولم يحتج إلى ذكر الفاعل لأن ما تقدم من قوله‏:‏ فأنت طلاق، قد دلّ على الفاعل، ألا ترى أن معناه‏:‏ أنت ذات طلاق، اي‏:‏ ذات طلاقي، أي‏:‏ قد طلقتك‏.‏

فلا فصل بين انت ذات طلاقي، وبين قد‏:‏ طلقتك، لما أضفت المصدر إلى الفاعل استغنيت عن إظهار المفعول، لجري ذكره في الكلام، فحذفته كما استغنيت من ذكر المفعول في قوله‏:‏ والحافظين فروجهم والحافظات فلم يحتج إلى ذكر الفاعل في عزيمة إذ كان مصدراً كالنذير والنكير، وكما لم يحتج إليه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإطعام في يوم ذي مسبغة يتيماً لتقدم ذكره، فلذلك لم يحتج إلى ذكر الفاعل في عزيمة فصار كأنه قال‏:‏ أنت طلاق؛ والطلاق عزيمتي ثلاثاً، أي‏:‏ أعزمه ثلاث‏.‏ فيكون ثلاثاً المنصوب متعلقاً بعزيمة، ويكون تعلقه به على جهة الظرف، كأنه قال‏:‏أعزم ثلاث مرات وثلاث تطليقات، فإذا كان كذلك وقع ثلاثاً تطليقات لتعلق الثلاث بما ذكرناه؛ ولا يجوز ان يكون أقلّ من ذلك لتعلقه بالعزيمة‏.‏ والأشبه فيمن نصب ثلاثاً أن يكون الطلاق الثاني المعرف باللام يراد به الطلاق المنكور الذي تقدم ذكره، أي‏:‏ ذلك الطلاق عزمته، أي‏:‏ عزمت عليه ثلاثاً‏.‏ فإذا كان كذلك لم يتجه إلا إلى الإيقاع للثلاث‏.‏

وأما إذا رفع ثلاثاً أمكن أن يكون المراد‏:‏ الطلاق عزيمة ثلاث، أي‏:‏ جنس الطلاق ذو عزيمة ثلاث؛ وأمكن أن يكون طلاقي ذو عزيمة ثلاث‏.‏ فإذا امكن أن يكون المراد به طلاقه خاصة، وأمكن أن يكون غير طلاقه ولكن جنس الطلاق، لم يوقع به شيءاً حتى يتيقن ذلك بإقرار من المطلق أنه أراد ذلك؛ فأما إذا لم يقترن إلى هذا اللفظ، الذي يحتمل الطلاق الخاص والطلاق العام، شيء يدلّ به أنه يريد به طلاقه خاصة، لم نوقعه‏.‏

والأشبه في قولهم‏:‏ واحدة، واثنتان، وثلاث، في الطلاق، وإيصالهم إياه بهن، أن يكون مراراً؛ فينتصب على أنه ظرف من الزمان؛ يقوي ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الطلاق مرتان والمعنى‏:‏ الطلاق في مرتين؛ إلا أنه اتسع فيه فأقيم مقام الخبر، كما أقيم ظرف الزمان مقام الفاعل في قولهم‏:‏ سير عليه طوران، وسير عليه مرتان وشهران؛ فكذلك قوله مرتان‏.‏ وإذا كان كذلك، كان قولهم‏:‏ أنت طالق واحدة، كانك قلت‏:‏ أنت طالق مرة، وأنت طالق ثنتين، أي‏:‏ مرتين‏.‏ وكذلك ثلاثاً‏.‏ فيكون ذلك ظرفاً من الزمان‏.‏

ويجوز فيمن نصب ثلاثاً في البيت أن لا يحمله على عزيمة، ولكن يحمله على فعل مضمر، كأنه لما لم يجز أن يحمله على طلاق الأول ولا على طلاق الثاني، وكان المعنى والمراد أن يكون يكون الثلاث محمولاً على الطلاق، أضمر طلقت‏.‏ ودلّ عليه ما تقدم من ذكر الطلاق؛ فكأنه قال‏:‏ طلقتك ثلاثاً‏.‏ فأما حمل الثلاث على التفسير في قولهم‏:‏ أنت طالق ثلاثاً، فليس ذلك من مواضع التفسير، ألا ترى أن التفسير جميع ما كان منتصباً منه فقد نص النحويون على جواز إدخال من فيه، وأن منه ما يردّ إلى الجمع ومنه ما يقر على الواحد، كقولهم‏:‏ عشرون من الدراهم، ولله دره من رجل‏.‏ ولا يجوز ذلك في هذا، ألا ترى انه لا يستقيم‏:‏ انت طالق من واحد، ولا من العدد، ولا ما أشبه ذلك‏!‏ فإذا كان كذلك لم يكن تفسيراً‏.‏

وأيضاً فإن التفسير لا يجوز أن يكون معرفاً، والتعريف في هذا غير ممتنع، تقول‏:‏ انت طالق الثلاث، وأنت طالق الثنتين والطلقتين‏.‏ فإذا كان كذلك كان ظرفاً، والظرف يكون تارة معرفة وتارة نكرة‏.‏

وقد تقول‏:‏ أنت طالق من ثلاث ما شئت، فيكون ما شئت معرفة، كانك قلت‏:‏ الذي شئته؛ فيكون معرفة‏.‏ ولو كان تفسيراً لم تقع المعرفة في هذا الموضع‏.‏

ولا يجوز أن ينتصب على أنه حال، لأنه لو كان حالاً لم يجز أن يقع خبراً للأبتداء في قوله‏:‏ الطلاق مرتان كما لا يكون الحال خبراً للمبتدأ‏.‏ ولو قلت‏:‏ قمت خلفك؛ فنصبت خلفك على تقدير الحال، أي‏:‏ قمت ثابتاً فيه، لم يجز الإخبار عنه، لأن الحال لا يكون خبر مبتدأ‏.‏

فإن قلت‏:‏ يكون قوله‏:‏ والطلاق عزيمة، اعتراضاً بين الصلة والموصول، وتحمل ثلاثاً على الطلاق الأول؛ قيل‏:‏ لا يجوز أن تحمله على الاعتراض‏.‏

كما أن قوله‏:‏ وأقرضوا الله قرضاً حسناً في قولنا اعتراض، الا ترى أن ذلك اعتراض بين الخبر والمخبر عنه‏!‏ وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إن الهدى هدى الله اعتراض بين المفعول الذي هو أن يؤتى أحد ‏.‏ ولا يعترض بين الطلاق وثلاث، لأنه لا مثل له يشبه به‏.‏

هذا كله كلام أبي عليّ، وقد حذفنا منه بعض ما يستغنى عنه‏.‏ وفي منعه الاعتراض رد على الشارح وغيره، حيث جعلوا الجملة معترضة، كما تقدم التنبيه عليه‏.‏

//خبر كان وأخواتها أنشد فيه، وهو